أنوارعبدالرحمن
ذات ليلة وقبل أن أخلد للنوم حدثت نفسي لو كنت حمامة وأنطلق للسماء، فأتنقل من غصن إلى غصن، وارتفع بأجنحتي عن الأرض لأرى العالم كله بعيني الصغيرة، ثم غلبني النعاس دون أن أشعر، صحوت بعدها على صوت أذان الفجر، وإذ بي أفاجأ بأنني أصبحت بالفعل حمامة.
طرت نحو النافذة أقلب ناظري يمنة ويسرة متسائلة كيف تحققت أمنيتي بعد ساعات قليلة؟ وكيف سأتصرف الآن وإلى أين سأذهب؟ أسئلة كثيرة متشابكة ومتلاحقة أخذت مني أكثر من الساعة ولم يقطع سيلها إلا صوت ابنتي وهي تلج غرفتي حاملة معها مشطها كي أسرح شعرها كعادتها كل صباح، وأوصيها بالمعوذات والأذكار قبل ذهابها إلى المدرسة، لا أخفي عليكم شعرت بتأنيب الضمير، كيف تركت ابنتي في وقت كانت هي بحاجة ماسة لي؟ وهنا تملكني شعور غريب اتجاه الأطفال اليتامى الضعاف الذين تركوا تحت رحمة زوجة أب حاقدة ووالد ظالم، يتمنون من يقضي أصغر الحوائج لهم ولا يجدون أذنا تسمع ولا قلبا يرحم، وأطفال كبروا على مأساة لا تستوعبها عقولهم الصغيرة، كيف ولدتهم الأرض بلا أبوين؟ ومن رمى أجسادهم الغضة بجانب قمامة؟ أقسم ان هذين اللذين حكما على نطفة بالضياع من أجل شهوة، لا يستحقان العيش في الحياة متنعمين.
وما هي إلا دقائق حتى احدثت ابنتي ضجة، سائلة من حولها أين ذهبت أمي؟.. تفاعل معها الجميع وأخذوا يبحثون عني، ثم اتجهت ابنتي نحو النافذة كي تطل منها لتتأكد من وجود سيارتي مركونة أمام المنزل، فتحتها بقوة وإذ بي أطير بجناحي نحو الأفق.
حططت على أحد الأغصان الكبيرة وأنا أنظر للأرض التي حولي لأول مرة بعينين صغيرتين، تفحصت جناحي وحركتهما بلطف، عندها جاءتني فكرة أن أتجول في سماء المدارس لأرى حال الطلبة والمعلمات في ميدان التربية والتعليم، انطلقت نحو اقرب مدرسة ابتدائية، كانت للتو الطالبات الصغيرات يصطففن في الطابور لتحية العلم والاستماع إلى برنامج الصباح، هنا لفتت انتباهي طالبة تكاد تزرق أطرافها من هذا البرد القارص، كيف خرجت من البيت دون أن تلبس ما يدفئ جسدها الصغير؟ هل اتكلت والدتها على الخادمة في تلبيسها؟ وهل الخادمة تحمل في قلبها مشاعر الأمومة اليقظة التي تهتم بحماية الطفلة من البرد وأمراضه؟ من جاء بالطفلة إلى المدرسة هل هو والدها؟ إني أشك في ذلك فلو كان والدها من أوصلها إلى المدرسة بهذا المريول الخفيف لتحركت بداخله مشاعر الأبوة وعالج الأمر؟ كانت طفلة أخرى تقف بجانبها شعرت بزميلتها وهي ترتجف من البرد رغم وجود المعلمة وملاحظتها لذلك، فنزعت إحدى قفازيها كي تمنحها جزءا يسيرا من الدفء، كيف تعاطفت طفلة مع طفلة ولم تتحرك مشاعر مربية؟
توجهت الطالبات بعدها إلى فصولهن ومازلت أفكر بأمر هذه الطفلة ومن هن على حالها، تمنيت عندها أن أضع قرارا بتمويل مخازن المدارس بالملابس الضرورية لظروف مشابهة لهذه، لأبنائنا الطلبة فهم أولى بأموال بلدهم.
بعد دقائق أفزعني صراخ إحدى المعلمات، اقتربت من فصلها وإذ بالمعلمة تصرخ في وجه إحدى الصغيرات لأنها أخذت في الامتحان درجة متدنية، والطفلة لم تنطق بحرف واحد أمام هذه «الهائجة» كنسر أمام فريسته، فما ذنب الطفلة إن كان استيعابها ضعيفا؟ وهل هي من تتحمل ذنب أبوين لا يعيان حجم المسؤولية؟ ألم تفكر هذه المعلمة بشعور هذه الطالبة الصغيرة ومن حولها من الطالبات وتأثير ذلك على حبهن للمعلمة نفسها والعلم والمدرسة؟
وطفلة أخرى في نفس الفصل كاد يتقطع قلبها من البكاء أرسلتها معلمتها إلى الاختصاصية، حاولت أن تعرف ما سر بكائها رغم أن درجتها في الامتحان تقترب من الدرجة النهائية، فأجابت بصوت مخنوق بالدموع، «ستضربني أمي حتما لأنني لم أحصل على الدرجة الكاملة وستحرمني من اللعب والخروج من المنزل والمصروف»، أي ظلم هذا الذي تواجهه طفلة في سنها من أقرب إنسانة لها وأحن قلب عليها، إن لم تكن الوالدة من يدفعها للنجاح والتفوق بالكلمة الطيبة والقبول، فمن سيكون إذن؟ إن كان فؤاد الأم الحنون حجرا، وحضنها الدافئ شوكا فمن سيمنحها الحب والثقة إذن؟ ألا تعلم هذه الأم أنها تخسر الكثير مقابل درجة كاملة تحصل عليها ابنتها في الامتحان بالخوف والقلق والألم؟ أطفال كثيرون يعانون القسوة من والديهم والضرب والحرمان غير الصحي، والبعض منهم يعاني من أمراض نفسية غير ظاهرة على السطح، والخوف من أن يتطور هذا الأمر إلى الإصابة بأمراض عضوية بسبب تحميل الطفل مجهودا أكبر من طاقته وهما وقلقا لا يستوعبه قلبه الأخضر الصغير، تمنيت وقتها أن أوجه سؤالا لأمهات كهذه الأم، ماذا تعني ورقة امتحان كاملة الدرجات مقابل ابتسامة ابنك وصحته؟
قرائي الأعزاء، لم تنته رحلتي ولكن سأقف إلى هنا، لأكملها لكم في المقال القادم بإذن الله تعالى.