أنوارعبدالرحمن
رحلتي فوق سماء بعض المدارس «عندما كنت حمامة» لم تنته، فكل مرحلة تختلف عن الأخرى في بيئتها وهمومها وكيفية إدارتها، ومحطتي التي أقلعت إليها هذه المرة، هي إحدى المدارس الثانوية للفتيات، لقد كانت سعادتي لا توصف عندما حططت بأجنحتي على أحد جدرانها وأنا أشاهد بعيني الصغيرة الطالبات الشابات وهن يتجولن داخل المبنى كالفراشات، وشدني من بينهن ثلاث فتيات وهن يحملن لوحة إبداعية من صنع أيديهن ويتجهن بها إلى غرفة مديرة المدرسة والسعادة تملؤهن، لاحظت كذلك في ركن خاص أمام مدخل الإدارة مقسما صغيرا وجميلا لمدينة الكويت وأهم معالم البلد وبعض الأعمال اليدوية التي تبهر الناظر إليها، وأيضا هذه الأعمال من أفكار وإنتاج طالبات المدرسة، حلقت فوق هذه الفنون الإبداعية وأنا أشعر بفخر غير عادي لصنع هذه العقول التي يسعد ويفخر بها الوطن، ولكن ما عكر مزاجي خلال تنقلي بين ممرات الفصول، سماعي لحوار شديد اللهجة بين إحدى المعلمات وطالبة تقف أمامها كالند وترد عليها بكبرياء وسوء أدب، اقتربت منهما قليلا فسمعت ما أثار غيظي وأوجع قلبي بنفس الوقت، هنا تذكرت عندما كنت طالبة في المرحلة الثانوية، وكيف كنت وجيلي في ذلك الوقت نحترم المعلمة ونهابها ونقدر مكانتها التي لا تقل عن مكانة الأم، كيف اختلت الأمور ولماذا أصبحنا نسمع ونرى بأم أعيننا هذا الاستهتار وسوء الأدب من بعض الطلاب دون رادع ولا خوف مع معلميهم؟.. لماذا أصبحت بعض الأسر تشجع أبناءها على تحدي المدرس والتعامل معه بكبر وتعال وكأنه عامل نظافة وليس كصاحب أفضل رسالة، ولا نبخس بذلك قدر حتى عامل النظافة، ومن المسؤول عن هذه الأخلاقيات وكيف يمكننا إعادة هيبة المدرس وبالمقابل احترام الطالب؟ فالمعلم الذي يتعامل مع طلابه بأمانة ونزاهة وأدب، لابد أن هذه الأخلاق الراقية سيكون لها أثر بالغ على نفسية الطالب، وأيضا كذلك على الطالب تقدير مهنة المعلم والنظر إليه بامتنان.
تذكرت وأنا أحلق خارج ذلك الممر عندما كنت طالبة في المرحلة المتوسطة ومعلمة اللغة العربية التي كانت تجمع المساطر مع بداية كل حصة من حصصها وتقوم بضربنا لأتفه الأسباب بقسوة وشدة، دون شعور منها بالرحمة والندم ولم تترك في قلوبنا إلا ذكرى سيئة، وفي المقابل لم تخرج أي طالبة منا لتقف في وجهها لتعبر عن وقع الألم والظلم على نفوسنا أو قامت أي واحدة من أمهاتنا بتقديم شكوى وقضية ضدها، وسبحان الله كيف انقلبت الأمور وصار بعض الطلاب يتهجمون على معلميهم ويتلفظون بألفاظ نابية من دون اهتمام ولا التفات نحو هيبة المدرس ولا قوانين المدرسة، فنحن هنا لا نريد معلما ظالما ومتبجحا ولا نريد طالبا يسيء الأدب مع معلم له قدره ومكانته.
بعد ذلك اتجهت إلى غرفة الاختصاصية ووجدت هناك طالبة قد تورطت بموضوع مؤسف مع بعض الشبان، وظلت لفترة تلمع وتزين الأمر لعدد من الطالبات الساذجات حتى يقعن معها في نفس هذه الحفرة العميقة، إلى أن وقعت هي في يد الإدارة التي علمت بأمرها من إحدى الفتيات النبيهات، وأخرى «بوية» تحاول إغراء زميلاتها لمصاحبتها وتقبلها كذكر وليست كأنثى، وتقوم الإدارة مشكورة بمعالجة مثل تلك الأمور السلبية والخطيرة في بعض الأحيان ويشيب بسببها الرأس.
وقبل خروجي من المدرسة، سمعت مديرة المدرسة تصفق بكل قوة وتهنئ الطالبات اللاتي قدمن لها تلك اللوحة الجميلة وبجانبهن تقف معلمتهن ذات الحس التربوي التي أخذت على عاتقها تحويل طاقة الفتيات وأفكارهن إلى عمل إبداعي ونتاج تفخر به المدرسة أمام المحافظات في المناطق التربوية كلها، تمنيت وقتها لو كانت كل طالبة نكست رأسها أمام الإدارة عرفت كيف تضع جهدها وطاقتها واستخدمت ذكاءها في أمر ترفع به جبهتها واسم عائلتها، ولا تقف في ذلك الموقف الذي يندى له الجبين، ولن يمحى من ذاكرتها، فكلهن يملكن عقولا ولكن الاختلاف بينهن، هو كيف يستخدمن هذا العقول لمصلحتهن ومصلحة الوطن ككل، وقبل أن أنطلق خارج مبنى الثانوية، اتجهت نحو إحدى الطالبات وكانت تجلس على أحد الكراسي وبيدها كتاب أدبي تقرؤه، لأترك بجانبها ريشة من جناحي، فقد ذكرتني بأيام قد مضت لها صور جميلة في عمق ذاكرتي، كم هذه الفتاة تشبهني.