يحكى أن هناك عائلة من طبقة الأثرياء، مكونة من زوج وزوجة وولد واحد يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة، اضطرت للعيش في إحدى الدول البعيدة، بسبب طبيعة عمل الأب وتجارته، وعاشت مستقرة وسعيدة في ڤيلا تشبه قصرا في إحدى مناطق العاصمة، وفي أحد الأيام سمعوا أصوات إنذارات، وعندما فتح الوالد المذياع عرف أن هناك عدوا يريد احتلال ذلك البلد، فأشار على زوجته أن يخرجوا من العاصمة ويتجهوا إلى أقرب قطاع يطل على البحر، ثم ينتقلوا عبر السفن إلى إحدى الدول القريبة، ومن هناك يتمكنون من العودة إلى أرض الوطن، وعندما خرجوا من بيتهم صادفوا في الشوارع أفواجا من البشر يتدافعون بقوة، للهرب من مناطق العاصمة، كان حينها ممسكا بقوة بكلتا يديه بزوجته وولده، حتى لا يجرفهم هذا السيل البشري، ولكن قوة الاندفاع جعلت هذه العائلة تفترق ويضيع كل واحد منهم عن الآخر، وكان أصعب موقف وأمره عندما وجد ذلك الولد الصغير المدلل نفسه كقارب ضعيف في محيط عظيم متلاطم، لا أب ولا أم ولا شعب ولا وطن، اضطره الخوف والرغبة في النجاة والتمسك بالحياة، أن يحاول أولا أن يجد من يساعده للحاق بوالديه، فسقط بيد مجرمين يستغلون ظروف الحرب للقبض على الأجانب وبيعهم للعدو ليتم تهديد الدول بهم، ومن هنا بدأ في خوض معاناة الأسر، يجوع ويتألم ويعامل كعبد، لم يكن هناك أحد يسمعه أو يعطيه حقه أو يقدر ضعفه أو يرحم غربته، فاضطر للتأقلم مع الوضع، يفكر ويحلل ويخطط، وينتظر الأمل القادم كل يوم، فصار مع الوقت يعرف لغة عدوه، ويتحايل على الجنود، ويرد على إهانة الكبار، ويقاوم الدموع والعجز، ويساعد المظلومين أمثاله، ذلك الطفل المحبوب المدلل، عندما كتب عليه القدر أن يترك في ساحة العدو، شاهد بعينيه كيف يكون الحق وكيف يتجبر الباطل، وعرف مفاهيم لم يعرفها في الحياة عندما كان ينام على سريره الدافئ، وشعر بآلام الآخرين وكيف يتفنن في العلاج، ولم يكن يحس بذلك وهو بين يدي والديه الحنونين، وأخذ الخبرة وفهم العبرة، واستنتج من الأحداث، ولم يكن ليصل إلى تلك العقلية وهو محاط بالعناية الزائدة من أسرته، وعندما عاد إلى أرض بلاده ألف كتابا وأعطى دروسا ونقل مبادئ أخلاقية، وصار محبوبا ليس فقط بين أفراد أسرته، إنما أيضا بين أبناء وطنه.
أيها القارئ الحذق، تركت في تلك القصة المختصرة رسائل مهمة كثيرة، عليك أن تستخرجها وتفهمها، فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة، والإنسان قد يجد نفسه في يوم من الأيام في موقف لا يتوقعه، وهو الذي عاش بين أسرته كملك، وضاع منه ما كان بين يديه، فلم ينفعه دلال الأبوين، ولا الاهتمام الزائد الذي كان يتلقاه منهما، ولكن بالتعب والسقوط وكثير من الخذلان، والسير باتجاه أحلامه وحيدا، ينتصر ويقف قويا على أرض صلبة، إلى نهاية حياته.
[email protected]