كانت تأتي أحيانا في نهاية الأسبوع لتلعب مع ابنتي لمدة ساعة أو أكثر، ولم تكن مزعجة ولا مؤذية، بل كانت تقضي تلك الفترة بقليل من الكلام لخجلها الزائد عن حده، رغم أنها أكبر من ابنتي بعدة سنوات، أول صفة تلاحظها عليها عندما تنظر إليها، هي هزالة بدنها، وقد عرفت سبب ذلك عندما زارتني إحدى جاراتي وسألتني وفي قلبها الكثير من الألم: هل تعلمين كيف تعيش تلك الفتاة المسكينة التي لا يتعدى سنها عشرة أعوام؟ قلت لها: لا.. لماذا؟ قالت بعد أن تنهدت بحسرة: «هذه الفتاة تعيش عند زوج أم، لأن أباها توفي منذ فترة، وقد أنجبت أمها هذه السنة طفلة، ولكنها تركتها بيد ابنتها الصغيرة هذه، لتتولى إطعامها وتغيير ملابسها وتنظيفها، بل وتتركها تنام في الليل عندها، لدرجة أنها تذهب للمدرسة وعيناها غافيتان من كثرة السهر بسبب بكاء المولودة، وكل ذلك من أجل إرضاء زوجها الثاني، والحفاظ عليه! وأردفت قائلة: يا لقساوة قلبها، لقد زادت على ابنتها ما تعانيه من اليتم مسؤولية أكبر من حجمها وإدراكها. حقيقة هناك آباء وأمهات، لا يستحقون حتى حمل هذا المسمى لأن أقل شعور يحمله الوالدان لأبنائهما، وهو الرحمة، قد نزعت من قلوبهم، والعياذ بالله»!
في الواقع.. لم تكن تلك الفتاة الصغيرة هي الوحيدة التي كانت تمر بهذه المعاناة، بل عرفت بعد فترة أن بعض الأمهات يتبعن نفس هذا النهج والأسلوب، وبعضهن يمارسن الإرهاب النفسي على أبنائهن، لدرجة حرمانهم حتى من أن يعيشوا مرحلة الطفولة، ويستمتعوا بأوقاتها كباقي الأطفال، وأذكر موقفا نقلته لي إحدى الأمهات، عندما لاحظت الانضباط غير الطبيعي في أبناء جارتها داخل المنزل، وخوفهم الزائد من أمهم، حتى من أن يتسببوا في إسقاط إبرة على الأرض، وسألتها عن سبب ذلك، ردت عليها بنبرة المتجبرة: «كف واحد بيخليهم بيمشوا عدل».. تقول هذه المرأة: شعرت بقشعريرة في بدني، عندما سمعتها تتكلم بهذه اللهجة، وكرهت بعدها حتى زيارتها.
السؤال الذي لن أجد أنا وغيري الإجابة عليه: من ينقذ هؤلاء الأطفال من قسوة والديهم؟ إحدى الطبيبات تقول: تمر علينا بعض الأحيان حالات نعرف من خلالها أن الأم أو الأب هو المتسبب في كسر عظم، أو نزف جرح حاد، في جزء من أجزاء جسم الابن، رغم نكرانهما وخوف الطفل من والديه عن ذكر الحقيقة، ولكن ليس بيدنا أي حيلة للتصرف أمام هذه الجريمة، سوى أن نقول: رحم الله هؤلاء الأبناء الذين ابتلوا بوالدين لم يقوما بحقهم أمام ربهما، الذي سيسألهما عن ذلك يوم الحساب.
نعم، رحم الله هؤلاء الأبناء. الذين فتحوا أعينهم فوجدوا والدين ظالمين، لم يرحماهم عند الصغر، فكيف يكون الإحسان لهما عند الكبر؟.. إنها فعلا مصيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[email protected]