كل يدّعي وصلا بليلى، فـ (ليلى) في حديثنا هي الاعتدال والوسطية التي يدعي الكل الوصل بها، فهذا مجنون بن عامر او مجنون ليلى واسمه الحقيقي قيس بن الملوح يقول فيما اشتهر عنه من ابيات في حبه لليلى العامرية:
وكل يدعي وصلا بليلى
وليلى لا تقر له بذاك...
إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى...
فأما من بكى فيذوب وجدا
وينطق بالهوى من قد تباكى...
ولو أني استطعت كففت طرفي
فلم أبصر به.. حتى أراك...
يتم ذكر هذه الأبيات عادة وبالأخص البيت الأول منها لمن يدعي أمرا والواقع والوقائع تخالف ما ادعاه وهو ابعد ما يكون عما ادعاه.
فإذا أخذنا مفهوم الاعتدال والوسطية كمثال سنجد ان الكل يدعي الوصل بها وانه من أهلها وأنها نهجه وحياته التي يحياها، ومحدثكم ليس استثناء من ذلك.
السؤال كيف نعرف او نقيس هذا المفهوم وما المعايير الضابطة له حتى نميز صاحب الفكر المعتدل الوسطي عن غيره؟
الاعتدال في اللغة: من القصد في الامور والتوسط فيها.
والوسطية في اللغة: من العدل والتوسط بين الطرفين.
الا ان وضع معايير متفق عليها أمر ليس بالسهل، فهل نعتمد مرجعية الأديان أم مرجعية الإنسان في ضبط معايير الاعتدال والوسطية، وإذا اعتمدنا مرجعية الأديان فأي دين نعتمد معاييره، وإذا اعتمدنا مرجعية الانسان فأي إنسان نأخذ بمعاييره، فالأمر بلا شك ليس بالسهل وهو الأمر ذاته الذي يجر الناس المختلفين في الأديان والأفكار عادة الى الخلاف والشقاق، وبالأخص إذا تعصب كل صاحب معتقد بمعتقده وكل صاحب فكر بفكره.
وعند ذلك يبقى المؤشر الأقوى لمدى امتثالنا لمفهوم الاعتدال والوسطية هو مدى قدرتنا على فتح عقولنا لآراء مخالفينا فذلك برأيي هو المؤشر الأبرز لاعتدالنا ووسطيتنا فبمقدار صدقنا وإخلاصنا سنظل نبحث عن الحق حتى نصل له من غير تعصب ولا تشنج فنقترب تارة من الحق ونبتعد عنه تارة كما هو ترموتر الحرارة حتى نصل الى قلب الحقيقة ونصيب كبدها بتوفيق من الله سبحانه وتعالى أولا وأخيرا، وعند ذلك نكون قد امتثلنا باقتدار لمفهوم الاعتدال والوسطية، فنحن أمة كما وصفنا الله تبارك وتعالى (أمة وسطا).
ولنا في معايير الإمام الشافعي رحمه الله في مفهوم الاعتدال والوسطية في قبول الآخر واحترام آرائه والتعايش معه مثالا رائعا في الحكم على الآراء المخالفة والتجرد في البحث عن الحق، ومن ذلك تلك المقولة الشهيرة التي اطلقها قبل قرون عديدة وما زالت راسخة في اذهان الناس يتداولونها ويستدلون بها تحت عنوان الاعتدال والوسطية وعدم التعصب للرأي وان كان الرأي موثوقا به تماما حيث يقول:
إن قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب
فترك الشافعي بهذه المقولة الباب مواربا لنفسه ولغيره لتفهم الرأي الآخر وإمكانية الاقتناع به إذا توافرت دلائل تقويه وترجحه على رأيه.
وقال أيضا في مقولة أخرى: ما جادلت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه دوني!
فبمجرد تقديرك واحترامك وتفهمك لاجتهاد غيرك وبحثه ومحاولته إصابة الحق تكون حينها قد امتثلت لمفهوم الاعتدال والوسطية، ولا يستلزم هذا التفهم وهذا التقدير لآراء الآخرين اتباع قناعاتهم والاقتناع بأفكارهم، فالتفهم والاحترام والتقدير شيء والاقتناع والاتباع شيء آخر تماما.
فليس من السهل أطر الناس وجرهم جرا إلى معتقداتنا وأفكارنا وما نؤمن به، بل ليس أمرا واقعيا ولا ممكنا، ولذلك نحتاج إلى التعايش وتقبل الآخر والاقتراب أكثر وأكثر من بعضنا البعض حتى نمتثل لهذا المفهوم العظيم مفهوم الاعتدال والوسطية، فإن حققنا ذلك نكون قد سرنا على الطريق الموصل للعيش معا بسلام وأمن ووئام وهذا هو غاية المرام.
ونختم بهذا الدعاء وهو من أشهر أدعية المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام والذي ينم عن رغبة صادقة منه إلى التوصل للحق وذلك بالاستعانة بربه وخالقه سبحانه لكي يوفقه إلى إبصار الحق واتباعه وإبصار الباطل واجتنابه، كما انه ابلغ تعبير على توسطه واعتداله وعدم تعصبه لرأيه عليه افضل الصلاة والسلام.
والدعاء هو: اسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه.. ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.. اللهم آمين.
والسلام ختام.
@awadh67
[email protected]