عندما ألف الروائي «جورج أورويل» روايته المتعلقة بكيفية سيطرة المؤسسات والوزارات والهيئات والمنظمات على تفكير المواطنين وتسييرهم وفق سياسات وأفكار محددة، وأطلق عليها اسم «عام 1984» فقد أصاب هذا العمل الأدبي الملايين من البشر بالهلع والخوف والرعب، حتى وصفهم الكاتب بعالم يحكمه «الأخ الأكبر» والذي تنتشر صورته في كل مكان محذرة الجميع من ان «الأخ الأكبر يراقبك».
فقد نظمت وزارة الحقيقة حملة دعائية من خلال لغة جديدة، لكي تعيد كتابة التاريخ، باستخدام لمسات منطق فكري جديد، وفي الوقت نفسه قامت وزارة السلام بشن الحروب لكي تذكر الشعب دائما بالخطر الداهم الذي يمثله أعداء البلاد، وذلك لإرهابهم، ولتؤكد في الوقت نفسه ان «أوشينيا» ظلت قوية نتيجة لولائهم وطاعتهم الكاملتين «للأخ الأكبر».
وكذلك حافظت «وزارة الحب» على الأمن العام بمساعة شرطة الفكر. وقد كانت الجريمة الكبرى هي إعمال العقل بأفكار تنتقد سياسة الدولة، وأدارت «وزارة الوفرة» اقتصاد البلاد على النحو الذي تقنع به الشعب بأهمية «الندرة» أو «الشح» وحاجة الدولة إلى تضحيتهم»..!
وكانت لغة الحوار المزدوجة هي لغة الحكومة التي رفعت شعارات.. الحرب هي «السلم» والحرية تعني «العبودية» والجهل هو «مكمن القوة»!
وقد سعى وينستون سميث، وهو الشخصية الأساسية والرئيسية في تلك الرواية، الى الهروب من هذه القيود الاجتماعية والنفسية، فقد كانت الدولة تفرض هيمنتها الكاملة على الشعب، عن طريق التخويف، والسيطرة على العقل.. وكانت محاولاته للحصول على حريته مرعبة، ورائعة في الوقت ذاته.
والسؤال الذي طرحه الكاتب «أدريان وآن جرييك» في كتابهما الخاص بعنوان «اغتصاب العقل» والذي ترجمه أمجد شوقي عام 1997 في مصر، بأنه هل يوجد عالم وينستون سميث الذي ركزت عليه الرواية «1984» في عالمنا الحاضر؟
فيواصل الكاتبان بأن هناك الكثير من الكتّاب والباحثين توصلوا الى نتيجة مفادها ان أساليب الحماية ضد تسلط الحكومات تزيد بمعدلات لم يسبق لها مثيل. ولكن التفكير الذي قد يصيب صاحبه بالرعب هو ان تكون المقالات على شكل لغة الحوار الجديدة، التي تفتق عنها ذهن «وزارة الحقيقة» في حكومة «الأخ الأكبر» متمثلة في محاولات السيطرة على الرأي العام، أي السيطرة على العقل والفكر..!
ويواصل الكاتبان أدريان وآن جرييك القول بأن الروائي أورويل اختياره لعام 1948 جاء عشوائيا، وبأن آخر رقمين من السنة التي كتب فيها روايته سنة 1948، فقد كان الاختيار موفقا، حيث ان العديد من الظروف والأحوال التي وصفها أورويل في روايته كان نتاجا لاتساع دائرة المعرف، وتقدم وسائل الاتصالات، والثورة الاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
لا شك ان أكثر أساليب «اغتصاب العقل» شيوعا وانتشارا يكون في المجتمعات ذات النظم الديكتاتورية التي تعاني شعوبها القهر والجور والكبت والإحباط والتردي في العلاقات الشخصية وانتشار الجامعات الدينية والعقائدية المتطرفة التي تحمل لواء «الفكر الأحادي الواحد» بحيث يجعل المجتمع يفتقد القدرة على التعبير عن الذات والروح وكبت الصحافة الحرة والغاء أسلوب الاستماع الى الرأي الآخر.
ومما يؤكده الكاتبان «أن هذا الأسلوب ينتج عنه توليد الاستغلال، واستيلاب الإرادة حيث يساعد التعطش الى الإجابات عن أسئلة معلقة أو الحرمان من الحرية وفقدان الأمل على خلق جيل كامل من ضحايا السيطرة على الفكر وفوق كل ذلك ساعد التقدم العلمي والتكنولوجي على ابتكار أساليب حديثة لاغتصاب العقل»!
وهو ما أشرنا إليه في عدة مقالات سابقة عن كيفية بعض من يحملون الصفة الإسلامية المنغلقة فكريا وتشويه صورة كثير من المذاهب والفئات الأخرى الإسلامية والفكرية حينما استغلوا شبكة المعلومات العالمية «الإنترنت»... في نشر أفكارهم وآرائهم المتطرفة من خلال تلك الشبكة..!
بعد استخدام أساليب التعدي الجنسي والبدني التي لم ينجحوا في استمرارية نشر فكرهم، بدأوا في استخدام أسلوب استخدام اغتصاب العقل الذي يهمل دور الإنسان في التفكير والبحث والتقصي عن الحقيقة التي يجب أن يعرفها.. حتى أصبح كثير منهم يحمل مقولة «دع الحكومة تفكر عنك».. أي «دعنا نحن نفكر عنك لنحيي لك حياة جديدة وجيدة في إهمال العقل والفكر من التطور والابتكار وفق أطروحاتهم المتطرفة..!
فاكهة الكلام: يقول المثل الكويتي: «اللي بالقلب يجرح، لا طلعه بره يفضح».
[email protected]