رحل الرمز الوطني العم محمد الرشيد عنا بعد 90 عاما عاشها في حب الوطن.
لم يكن العم محمد الرشيد رجلا عاديا بأي حال من الأحوال، حيث كان يحمل من القيم والمبادئ ما لا يستطيع ألف رجل حمله.. وكان رجلا بحجم وطن، كرّس حياته من أجل الكويت وشعبها الذي مثله في مجلس الأمة سنوات طويلة، كان خلالها النموذج والقدوة.. حمل آمال الناس وتطلعاتهم وأحلامهم وعمل على تحقيقها، ونجح في ذلك هو وزملاؤه من مؤسسي الكويت الحديثة.
من منا اليوم لا يتغنى بكويت الستينيات والسبعينيات، ويتحسر عليها، وعلى الوقت الذي كانت فيه الكويت عروس الخليج ولؤلؤتها؟! وهي بالطبع لم تكن لتصل الى ما كانت عليه إلا نتيجة لجهد وعرق وإخلاص كوكبة من الرجال الذين نحزن على فقدهم، من أمثال محمد الرشيد الذي ما كان أمام الكويتيين إلا ان يبادلوه الوفاء بوفاء مثله، ولذلك اختاروه ممثلا عنهم طوال سنوات (1963-1985) لثقتهم به وبنزاهته وحكمته وكفاءته.
ما لا يعرفه كثيرون عن العم محمد الرشيد انه في خمسينيات القرن الماضي كان يملك شركة لتوليد الكهرباء وانه كان المالك الوحيد في الكويت لهذا النوع من الشركات الى جانب الدولة، وأتاه يوما أحد «المتنفذين» عارضا عليه تحويل فواتير الكهرباء في القطاع الذي يرأسه من الدولة لصالح «شركة محمد الرشيد»، مستغلا نفوذه في ذلك، مقابل أن يرفع العم محمد من قيمة الفواتير ويقسم الأرباح بينهما لاحقا فما كان من العم بوأحمد إلا أن أنهى أعمال شركته حتى لا تكون عرضة للابتزاز أو المساومة وقال لذلك «المتنفذ»: لقد اخترت الشخص الخطأ.. فأنا محمد الرشيد.
ولم تكن القضايا المحلية وحدها ما يشغل باله، فقلبه الكبير كان يتسع ليحتضن العالم العربي وهمومه، ففي سبعينيات القرن الماضي اصطحب العم بوأحمد أحد أبنائه متوجها الى احدى الدول العربية تطوعا لمقابلة قائدها الذي لم يسبق له الالتقاء به لبحث بعض قضايا الشأن العربي الحساسة آنذاك. وعند وصول العم بوأحمد إلى مقر اقامة القائد طلب الحرس تفتيشه، لكنه رفض بشدة، مما أحرج الجهاز الأمني التابع للرئيس العربي، واضطرهم لأن يخبروه، فأمر الرئيس بإدخال العم أبوأحمد دون تفتيش، وأثناء حديثه معه كان الرئيس مبتسما طوال الوقت مستغربا من الجرأة التي كان يتحدث بها معه، وسط ذهول «الابن» الذي كان فخورا بأبيه. وفي نهاية اللقاء اعتذر الرئيس الى العم محمد عن «طلب الحرس» تفتيشه، مبررا ذلك بأنها «الاجراءات»، والتفت آمرا رجاله: «هذا الحاج محمد، في اي وقت يزور فيه البلد فهو ضيفي».
لم يكن، رحمه الله، من أصحاب الملايين، ولم يكن من أصحاب العقارات والأراضي والأملاك، لكن رصيده السياسي والوطني يفوق رصيد الكثيرين من أصحاب الملايين لمكانته الراسخة والمتجذرة في أذهان الكويتيين وضمائرهم.
كان العم محمد الرشيد مدافعا عنيدا عن الحق، صلبا لا ينكسر، وذا بأس شديد، لا يلين أمام إغراءات الدنيا بكل أنواعها، وكان رحمه الله شخصا شامخا على الدوام بعزته وبإخلاصه وصدقه ومبادئه وعطائه.
لم أنل شرف الالتقاء به لظروفه الصحية في الفترة الأخيرة، ولكنني تألمت لفقده، لأن ما يجمعنا معه هو الكويت، فهمومنا وآلامنا وآمالنا هي همومه وآلامه وآماله، ولم أجد أصدق من تعليق أحد الرفاق عندما تلقى خبر وفاته حيث باغتني بالسؤال: كم من الوقت تحتاجه الكويت لتنجب لنا ابنا بارا بحجم العم محمد الرشيد؟!
نتألم ونحزن لفقد الأحبة، ولكن عندما يكون الفقيد بمقام العم محمد الرشيد يصبح الألم أكبر والدموع أغزر والأحزان أعمق، رحم الله العم محمد الرشيد فالكويت هي التي فقدته.. الكويت التي قضى 90 عاما في حبها.
فيا أيها العم نمْ قرير العين في الأرض التي عملت من أجلها ودافعت عنها، وارقد بسلام فإن جسدك الطاهر يحتضنه تراب الكويت التي عشقت.. رحمك الله.. ونسأل الله أن يلهم أهلك وذويك ومحبيك الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).