ضاري المطيري
على الرغم من تقارب وتشابه تخصص عالم الفيزياء مع عالم الرياضيات للناظر إليهما من أول وهلة إلا أن الفرق بينهما شاسع، فالأول يموت بالاختصار وديدنه حذف الأرقام العشرية والكسور، ويعتني بروح الرقم أكثر من شكله، بينما الثاني يعشق شيئا اسمه عدد عشري أو أقل منه، والآلة الحاسبة لا تسقط من يديه، فهو لا يفرط لا في خانة العشرات ولا في خانة الآحاد، الأرقام كلها عنده سواء في الأهمية، وتغيير الرقم أو إهماله جريمة كبرى لا تغتفر، فالمهندس يقول لك وبكل سرعة إن حاصل قسمة 99 على 100 يساوي 1 تقريبا، بينما عالم الرياضيات لا يمكن أن تكون إجابته هكذا، إنما تكون الإجابة القاطعة عنده هي 0.99، لذلك لا يمكن للأول أن يفتي في مسائل النظريات الرياضية البحتة، كما لا يفتي الثاني في مسائل الواقع فيقول للمقاول مثلا اجعل عرض الغرفة 5.483م بدلا من قوله 5.5م.
لكن مع ذلك يمكن لعالم الرياضيات في عالمنا العربي أن يتكلم في الدين ويفتي وكأنه علامة زمانه، وللفيزيائي أن يسوق أقوال العلماء متسلسلة، قولا وراء قول، ثم يبدأ بالترجيح والتضعيف على هواه، لا بل لسائق التاكسي والسباك والكاشير وكاتب الصحة أن يخوض في مسائل الخلاف دون رقيب، فالدين جعله البعض «وكالة من غير بواب».
المضحك في الأمر أن أهل العلوم الشرعية الدينية أنفسهم لا يفتون في كل شيء يخص الدين ويمس الشريعة، فالأصولي والفقيه قد لا يحسنا تصحيح أو تضعيف الأحاديث، فليست لديه ملكة المحدث، والمفسر قد لا يحسن تقسيم التركة ولا يجيد الحساب كالفرضي، والمحدث قد لا يحسن الإفتاء في الأمور المستحدثة ولا يستنبط دقائق المقاصد الشرعية كالأصولي، كل يتحدث في حدود علمه، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، بينما يمكن للطبيب والمهندس وكل من يتقدم اسمه حرف الدال أو يطلق عليه مجازا اسم صحافي أو إعلامي أن يفتي في كل ما سبق من علوم الشريعة التخصصية دون أن يرد عليه أحد أو يوقفه!
حدثني د.محمد الطبطبائي أنه نصح خلفه في عمادة كلية الشريعة د.مبارك الهاجري بأن يتجنب الإكثار من الإفتاء كما كان الحال معه، فتخصص الطبطبائي في أصول الفقه يؤهله للإفتاء أكثر من الهاجري المتخصص في الحديث، نصحه بتوخي الحذر في الإفتاء رغم علو قدر وعلم الهاجري، فهو أعلم من كثير وكثير ممن يتزاحمون اليوم على الفضائيات ويتصدرون المجالس للإفتاء، إنه التخصص والله يقول (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
فالأزمة التي تعاني منها صحافتنا المحلية والعالمية اختفاء التخصص ولذلك كانت أولى مقالاتي المنشورة لي في جريدة «الأنباء» بعنوان «دعوة للتخصص»، مع الأسف البعض يتسلل إلى الدين ويسوّغ لنفسه نقض عراه، عروة، عروة، بذريعة أن الدين ليس عليه وصاية، نعم الدين ليس له وصاية بمعنى أنه ليس حكرا على فئة دون فئة، فليس حكرا على العرب أو على سلالة أهل البيت أو الصحابة رضي الله عنهم أو قريش، فأصح كتب السنة للبخاري وهو رجل أعجمي، بل إمام اللغة العربية رجل أعجمي أيضا وهو سيبويه، البعض يدندن وينظر في عدم مشروعية التعدي على الدستور وعلى عدم تداخل السلطات فيما بينها وغفلوا عن تعدي البعض على الدين والتدخل في الأمور التي لا يحسنونها ولا يفقهونها، حتى رأينا من يشكك في الحجاب ويستهزئ بزوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا).