نسمع بين الحين والآخر تصريحات ونقرأ بيانات من تيارات سياسية ورموز فكرية تدعو إلى «الوحدة الوطنية» في وقت الأزمات السياسية أو الإقليمية، أو إذا مسهم شيء ما، ورغم سمو هذه الجملة «الوحدة الوطنية»، إلا أنها أصبحت جملة مستهلكة لكثرة استخدامها في الطالعة والنازلة، حتى كادت تفقد قيمتها الحقيقية!
نعم.. إذا اتهم تيار ما آخر بأمر ما، دعا إلى الوحدة الوطنية، وإذا شعر رمز ما بتراجعه أو إحراجه، دعا إلى الوحدة الوطنية، وإذا بدا لمسؤول ما أنه سيخرج من اللعبة السياسية، دعا إلى الوحدة الوطنية، وإذا اختلف العربي والقادسية، دعوا إلى الوحدة الوطنية، وإذا انتقد ممثل ممثلة في عمل فني، دعوا إلى الوحدة الوطنية، حتى إذا طبخ فنان في مكان ولم يطبخ في مكان آخر، دعوا إلى الوحدة الوطنية!!
إن الحرية الزائدة التي نعيشها، والترف الحياتي، وعدم استشعار العديد من الناس والتيارات والرموز المسؤولية تجاه الوطن، جعلتنا جميعا ننتقد الآخرين بالتهمة الأسهل والأسرع أثرا، وهي «عدم الوطنية»، كما هو حال التكفيريين بالضبط، فمن ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يؤمن بفكرتنا فهو غير وطني!
يقسمون الوطن بينهم كأنه إرث، ولا يقتسمون الوطنية التي تحفظ ذلك الإرث، حتى كاد يتفتت الوطن.
يقول الفقهاء إن «الميراث يفتت المال»، فإذا كان الأب يمتلك 10 ملايين دينار فهو مليونير، وإذا توفي تتوزع الملايين العشرة على الورثة، فيذهب مسمى مليونير عن أبنائه، حتى ان بعضهم لا يستطيع شراء بيت بما يرثه!
وكذا الوطن.. إذا استمر البعض «القليل» (الأكثر مناداة بالوحدة الوطنية) باقتسام ثرواته، واقتسام مناصبه، واقتسام قراراته، واقتسام شركاته، واقتسام إعلامه ورياضته وبرلمانه وجمعياته.. الخ، فلن يبقى هناك وطن ننادي من أجله «الوحدة الوطنية»، لأن الوطن بات مملوكا لثلة معدودة من الناس!!
كفاكم لعبا بالنار والإعلام والسياسة، فالوحدة الوطنية مصير وليست اختيارا، والوحدة الوطنية كل لا تتجزأ، والوحدة الوطنية ليست مزاجية يتم تفصيلها على قياسكم، تطلقونها وقتما شئتم، وتحبسونها وقتما أردتم، فالأحداث الإقليمية تتسارع، والنزاعات المحيطة بنا تتسع وتزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وإن كنتم تعتقدون أننا لسنا طرفا فيها، فنحن في أتون نارها وحميمها.
لا تعتقدون أن الشعب الكويتي بكل أطيافه لا يعي ما يجري في المنطقة، ولا تظنونه لا يعرف التجاوزات اليومية للقانون في كل شبر من هذه الأرض، والفساد المستشري في دم البعض، لكنه يتحامل على نفسه ذلك كله (ويبلع العافية) من أجل الوطن، حتى لا يتهم كالعادة من الديناصورات والمغرورين بتفتيت الوحدة الوطنية!
لقد كرر سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد حفظه الله النداء تلو النداء بضبط النفس، والالتفاف حول القيادة السياسية، خصوصا في هذه المرحلة الحرجة، فتجدهم يتصرفون وكأن الأمور طبيعية، ويبتزون الوطن بأرخص الأساليب، ويضعون القيادة السياسية في حرج محلي وخارجي.
يعيش البعض كبرا غير طبيعي تجاه الآخرين، ويعيش مرحلة الذات (أنا ومن بعدي الطوفان)، مذكرين إيانا بقصة أصحاب السفينة، الذين لو تركناهم يخرقون في هذا الوطن لهلكوا وهلكنا جميعا، والخوف من هذه المرحلة: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)، وقد سئل النبي ﷺ: يا رسول الله.. أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث». وفي الفم ماء.
إنها دعوة تذكيرية لتصحيح أي ممارسة خاطئة، بقصد أو دون قصد، فالوحدة الوطنية لم تعد خيارا ولا ترفا، بل هي واجب يتطلب العمل، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهيا إلى العمل الجاد والصادق من أجل الوطن، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.