قضت محكمة الجنح المستأنفة وسوق المال ببراءة مسلم البراك من شكوى قناة سكوب وطلال السعيد التي تتهمه بالسب والقذف، وإلغاء حكم أول درجة والقاضي بحبسه ثلاثة شهور.
وبالاطلاع على حكم الاستئناف، فإنه يجدر في البداية الإشادة باللغة التي كتب بها الحكم، وبالفكر الجديد الذي حمله هذا الحكم، حيث أثبت القضاء أنه متعايش مع الوضع السياسي والاجتماعي الذي مرت به الكويت في الفترة السابقة، وأنه ليس بمنأى من تلك الأوضاع في إصدار أحكامه مما يعطي طمأنينة لدى الشعب بأن القضاء أيضا في صف حماية الحريات، وليس كما يعتقد البعض أنه قد يكون سببا في تحجيم حرية الكلمة، وأنه لن يتوافق مع الشد والجذب بين الحكومة والبرلمان والتحرك الشعبي.
وعليه سيتم التعليق على هذا الحكم من ثلاث نواح:
٭ أولا، القواعد التي استندت إليها المحكمة في إصدار حكم البراءة:
القصد الجنائي في جرائم العيب والسب والقذف يتحقق بمجرد الجهر بالألفاظ النابية، مع العلم بمعناها، ولا يشترط أن يكون المتهم قد قصد النيل ممن صدرت في حقه تلك الألفاظ، ولا عبرة في هذا الشأن بالبواعث، فهي لا يمكن أن تكون سببا في محو الجريمة.
وإذا توافر لدى المتهم قصد مختلط كأن تنصرف نيته إلى تحقيق الصالح العام بيد أن عباراته تفصح عن خصومه داخلتها خلافات شخصية أو حزبية، فإن المحكمة توازن بين القصدين لتغليب أحدهما على الآخر. عادة ما تغلب المحكمة قصد القذف في حالة الشطط في العبارة والتجاوز الظاهر لحدود الحق في النقد، ولا أهمية للباعث من وراء جرائم العيب والسب والقذف إلا إذا كان استعمالا لسبب من أسباب الإباحة.
ذهبت الأحكام القضائية في فرنسا ومصر إلى عدم وقوع جريمة القذف أو السب لعدم توافر قصد الاضرار بسبب حسن نية المتهم، إنما تقصد في حقيقة الأمر إلى وجود سبب من أسباب إباحة القذف.
ومن مظاهر الحق في النقد والذي يعد سببا من أسباب الإباحة نقد السلوكيات العامة ونقد الشخصيات العامة، بحيث يكون من المصلحة العامة تناول هذه الأفعال بالقول والنقد، وقد كفلت المادة 36 والمادة 37 من الدستور ذلك، وكذلك المادة 214/خامسا من قانون الجزاء.
من جانب آخر، جرى العرف على أن الشخصية العامة تتعرض أكثر للانتقاد من الشخص العادي.
والعرف يصلح سببا للإباحة وليس للتجريم والأمر يتعلق هنا بالإباحة.
والشخصية العامة تقبل بأن تضع نفسها محلا للتقييم من جانب الآخرين بقبولها للمهمة العامة.
فالأمر يتعلق بالرضاء الضمني الذي يرفع عن الفعل صفة التجريم.
لكن يلزم التقيد بالحدود القانونية للحق في النقد وهي توخي المصلحة العامة (حسن النية) وعدم الخروج على الموضوعية، ويعتبر خروجا على الموضوعية التجريح الشخصي الذي لم يكن ضروريا لنقد سياسة الشخصية العامة.
٭ ثانيا: تطبيق محكمة الاستئناف القواعد السابقة على حكم البراءة:
كل ما سبق كان تحت نظر محكمة الاستئناف في قضية النائب مسلم البراك والمرفوعة عليه من قناة سكوب. والتي قضت ببراءته من التهمتين الموجهتين إليه من الإدعاء العام حيث استندت للتالي:
1 - بالنسبة للتهمة الأولى:أن المحكمة مقتنعة بأن العبارات الصادرة من مسلم البراك لا شأن للشاكي وقناة سكوب الفضائية بها في أي حال من الأحوال وذلك بعد استماعها لكامل حديث البراك بانه لم يتفوه بالعبارة المنسوبة إليه.
2 - أما بالنسبة للتهمة الثانية: فإن المحكمة كونت عقيدتها بأن الألفاظ التي صدرت من مسلم البراك إلى المجني عليه لم تكن شائنة بذاتها، أي أنها ألفظ شائنة في حقيقتها ولكن المحكمة قدرت بأن مرامي العبارات لم يكن القصد منها الإساءة والتشهير بالمجني عليه بل كان القصد هو الدفاع عن مصلحة عامة للجماعة، فالمحكمة وازنت كما أسلفنا بين القصدين وتبين لها الغلبة في نفس قائلها أن المقصود هو المصلحة العامة وليست الإساءة والتشهير.
3 - واستدلت المحكمة على تلك الغلبة بأن المقصود هو المصلحة العامة وليست الإساءة والتشهير بالأمور التالية:
أ ـ جنوح القنوات الفضائية إلى عرض برامج وأحاديث من شأنها تمزيق الوحدة الوطنية.
ب ـ استحثاث مسلم البراك لرئيس الحكومة بتفعيل القانون وإغلاق تلك القنوات ومساءلة مالكيها.
ج ـ الصفة النيابية لمسلم البراك التي استند إليها في توجيه تلك الرسائل لرئيس الحكومة.
د ـ انتقاد العاملين في حقل الإعلام والناشطين في الشأن العام، وإن كان مريرا في عباراته وقاسيا في مضامينه يظل متمتعا بالحماية التي كفلها الدستور.
هـ ـ ليس جائزا افتراض أن كل وصف جرى إسناده إلى القنوات الفضائية على وجع العموم أنه مهين أو أن سوء القصد قد مازجه.
و ـ العبارات التي صدرت من مسلم البراك تعد من قبيل العبارات الشائنة التي أوردها عموم المتخاصمين في تلك الفترة وتحمل معنى التوبيخ او التأديب أو الكف عن الغلواء.
ز ـ وأهم ما جاء في الحكم الفقرة التالية التي تعد فكرا جديدا في القضاء الكويتي (لاسيما أن البين من مطالعة مجريات الواقعة وأحداثها أنها حصلت إبان فورة التجاذب السياسي بين الحكومة والبرلمان وبعض القنوات الفضائية وفي حقبة تباينت فيها الرؤى، وتزايد اللدد والمشاحنة بين المتخاصمين، فتبادلوا صنوف الإدعاءات، باختلاف معانيها، ومراميها، وبما يتوافق مع ظروف تلك المرحلة، من حراك سياسي لافت، وبما يتماشى مع المفهوم العام، لمبدأ الحق بالرد وتوجيه الرد، مما لا تثريب عليه في هذا الشأن).
٭ ثالثا: التعليق على حكم المحكمة ونورده بالتالي:
1 - تأسيس المحكمة البراءة لمسلم البراك في أسبابه هي قناعتها بأن الألفاظ التي صدرت منه بالرغم من أنها شائنة إلا أن الغلبة كانت للمصلحة العامة والتي نفت عنه المحكمة القصد الجنائي في التجريح والإساءة للمجني عليه، وهي عقيدة كونتها المحكمة من واقع اختصاص القاضي الجنائي في إصدار أحكامه تأسيسا على مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع وتقدير الأدلة وهو أوسع المبادئ القانونية انتشارا في قوانين ودساتير العالم المتحضر وهو أهم مبدأ من مبادئ نظام الإثبات الحر.
2 - ضمنا الحكم فيه توبيخ لقناة سكوب التي أساءت كما أشار الحكم للوحدة الوطنية فبعد أن كانت هي المجني عليها أخرجها الحكم بصورة المتسبب في إثارة تلك المشاكل، وما صدر من مسلم البراك كان من باب التوبيخ والتأديب والكف عن الغلواء وحث رئيس الحكومة على تطبيق القانون على تلك القنوات الفضائية.
3 - إن المحكمة تعايشت مع الفترة السياسية التي في أثنائها صدرت العبارات التي اتهم فيها مسلم البراك بالقذف والسب لقناة سكوب، وبناء عليه قدرت من ورائه إن القصد الجنائي لدى مسلم البراك كانت المصلحة العامة وليست الإساءة والتشهير، وهو توجه وفكر جديد لدى المحكمة بحيث انها وازنت بين قسوة الألفاظ وما تحمله من تجريح وبين المصلحة العامة من إطلاقها.
4 - وهذا الفكر يعطي دلالة على أن ما حدث في تلك الفترة من تجاذب سياسي بين الحكومة والبرلمان وبعض القنوات الفضائية سيشكل باعثا جديدا لدى المحاكم عند نظرها للقضايا التي ارتكبت في تلك الفترة، إذ سيتمسك المتهمون بهذا الفكر الجديد في دفاعهم إما لاستصدار أحكام البراءة في قضايا الرأي أو من أجل تخفيف العقوبات في الجرائم الأخرى.
5 - الهجوم والتجريح الذي تعرض له القضاء في الفترة السياسية التي استدنت إليها المحكمة في سوق مبررات حكم البراءة لمسلم البراك يصلح أيضا أن يكون سببا في نقد أعمال القضاء نقدا موضوعيا، وإن كانت هناك قسوة قد صدرت من البعض في نقد إجراءات القبض والتحقيق ومحاكمة المتهمين في تلك الفترة.
أستاذ القانون الجزائي ـ كلية الحقوق