الوليد بن المغيرة هو الشخصية الأولى بين وجهاء مكة، رزق من الأبناء عشرة أشهرهم خالد بن الوليد وعمّر حتى 95 سنة، وكانت له مكانة في قريش لسماحته وكرمه، فقد كان يكسو الكعبة عاما ويترك قريشا كلها تتعاون لكسوتها عاما، ثم يكسوها العام التالي، كان له مال وفير في الطائف من بساتين ذات غلال كثيرة وتجارة رائجة اذا رجعت الى مكة تدخلها من عدة جهات لكثرة قوافله.
هذه المكانة الرفيعة كانت «سببا لفتنته»، أعجب بالقرآن الكريم حينما سمعه، وهفت نفسه نحوه، فقال: «إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه» عندما بلغت هذه الكلمات مسامع أبي جهل (عمرو بن هشام) انتفض في جلسته وقام يرتعش من الغيظ، أخذ يذهب ويجيء في داره ويتساءل عما سيحدث اذا دخل سيد قريش الأول الى الدين الجديد، لقد كان يقول للناس «لماذا ينزل الله رسالته الى رجل عادي، لم لا ينزلها على سيد مكة الوليد بن المغيرة، أو سيد قبيلة ثقيف في الطائف عروة بن مسعود؟». فإذا قبل الوليد بهذا الدين فماذا سيبقى لأبي جهل ليقوله للناس؟ وكان القرآن الكريم قد سجل عباراته هذه (وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).. لهذا سارع أبو جهل نحو الوليد وهو يحمل فكرة جهنمية، دخل عليه في مجلسه الخاص وهو يصطنع لهجة ممثل محترف، قال له: «لقد جئتك من دار الندوة، الناس يتحدثون هناك أنه قد أصابتك جائحة في مالك، وسيجمعون لك المال الذي تطلبه حتى لا تحتاج الى محمد بعد أن سمعوا أنك تمدحه لأجل أن يعينك» هنا اندفع الدم في عروق سيد قريش الأول: «أنا أحتاج الى مال محمد؟ من قال هذا الافك؟» أجابه أبو جهل: «مدحك له هو السبب».
فقال الوليد «بل هو الذي يحتاج الى مالي ولست بالذي يتبعه أبدا» فسارع أبو جهل الى القول: «كيف يعلم الناس وقد فشت فيهم مقالتك الأولى؟ قل غيرها».
جلس الوليد على أريكته وأخذ يفكر، ثم قال: «إنه ساحر، نعم، ساحر فمن سمعه فارق أهله وتبعه، وما هذا الكلام الذي يقوله الا قول بشر».. خرج ابو جهل مهرولا الى دار الندوة يكاد يطير من الفرح، دخل الى الناس وهم مهمومون بما تتناقله مجالس مكة من حديث الوليد بن المغيرة، فلما رأوه فسحوا له المجلس، فجلس وقال: «هل سمعتم ما قاله الوليد بن المغيرة اليوم؟»
تسمرت أبصار القوم وهم ينتظرون مقولة جديدة تعزز الأولى في الثناء على الدين الجديد، ففاجأهم أبو جهل «لقد قال عن محمد انه ساحر، يفرق بين المرء وأهله، وما كلامه هذا الا من قول البشر» فرح القوم ووثب بعضهم في وسط المجلس سرورا بما سمع، وترددت ضحكات أبي جهل في آذان الرجال الذين انتشروا بين مجالس مكة، لنقل مقالة الوليد بن المغيرة «إن هذا الا قول البشر».
لقد بلغ غضب الرب عز وجل على الوليد مبلغا لم يصل اليه أحد في زمانه فذكر إنعامه عليه، ثم توعده بأنه سيفرد له عذابا لا يقارن بغيره، قال تعالى (ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا)..ثم وصف القرآن حال الوليد بدقة شديدة (إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر) نعم لقد فكر الوليد وقدر، وقال «و الله ما هو من الكهان فقد علمنا زمزمتهم، ولا هو بمجنون فليس فيه خنق الجنون ولا وسوسته، وليس هو من الشعراء فليس فيه رجزهم وقريضهم ومقبوضهم ومبسوطهم وما هو بساحر فليس فيه عقدهم ولا نفثهم».
إذن لقد كفر بعد علم ودراية كاملة، لهذا انصب غضب رب السماء والأرض على الوليد دفعة واحدة (سأصليه سقر).. (سأرهقه صعودا).. حتى أنت يا محمد لا تتصور حجم عذاب الوليد (و ما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر).
اللهم حنانيك، اللهم لطفك، اللهم إن للقرآن العظيم القدر العلي، ولرسالتك الكبرى الجلال والكمال، فاغفر لنا، ولا تؤاخذنا بما فعل المغرورون رغم علمهم الوثيق بلغة العرب، لغة القرآن، الجاهلون بمصير من يقول (إن هذا الا قول البشر).
[email protected]