لم ينجب إبراهيم عليه السلام من زوجته سارة حتى تقدم به العمر فتزوج من هاجر وأنجبت له إسماعيل ـ أنجبت لاحقا سارة له إسحاق ـ انظر إلى هذا الأب الكبير يأخذ إسماعيل الذي أنجبه بعد طول انتظار مع أمه من بلاد الشام الى صحراء قفراء ويتركهما في واد ليس فيه أحد من الناس، وذلك امتثالا لأمر رباني لم يعلم غاياته، نظرت هاجر الى زوجها وقد نهضت به ناقته ليرحل، فتعلقت برجله قائلة «أتتركنا هاهنا في واد موحش غير ذي زرع ولا ماء؟» لم ينظر إبراهيم ناحيتها ولم يستطع الإجابة ولا حتى الكلام، فقالت له «آلله أمرك بهذا؟» لم يجب أيضا، فالموقف شديد على أب قلبه يتفطر لتركه زوجته وطفله الرضيع في هذا الحال، كررت السؤال، لم يجب، فالكلمات لا تقوى على الخروج من فمه، فلما أصرت هز رأسه، أي «نعم، الله أمرني بذلك» فتركت هاجر قدمه قائلة «إذن، لن يضيعنا»، فسارت الناقة بالراكب رويدا رويدا، غابا في الوادي وراء الجبل.
جلست الأم مع طفلها ومعهما زاد مسافر لن يلبث أن ينفد، وهي لا تدري ما تصنع، الليل ثقيل بظلمته ومخيف بين جبال سوداء تطل عليها من كل جانب، كأنها كائنات عملاقة تطل من علو تنظر الى أضعف فئة من البشر، أم وطفل رضيع.
لقد كان صمود إبراهيم عليه السلام عجيبا في تلك اللحظة، وهو سبب تناولي موضوعا نعرفه جميعا، نظرا لصعوبة تصور ضخامة الاختبار الذي تكرر مع إبراهيم عليه السلام مرة أخرى عندما بلغ هذا الطفل سن الشباب الذي ينتظره كل أب، فإذا بالاختبار يتضاعف «الذبح»، ولم يكن امتثال الابن الشاب أقل مما فعلته الأم التي أحسنت تربيته في غيبة أبيه، لقد نجحوا جميعا في الاختبارات العظيمة، وكانت النتيجة (واذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما).. ثم رزقه ذرية مباركة (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم) وسما به (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما) وامتدح خلقه (إن إبراهيم لأواه حليم).
نعم، الاختبار والابتلاء سنة ربانية (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، وتتفاوت شدة الاختبارات بحسب حجم المكافأة المخصصة للفائزين، لهذا كان «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل»، وقد ينخفض حجم الاختبار فلا يتعدى كلمة غير سوية أو جارحة من شخص حتى يتبين معها رد فعلك (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون)، والعجيب أن يكون هذا الشخص هو أنت، تقول كلمة ليس من عادتك أن تقولها، وبالذات لهذا الإنسان الذي تكن له المحبة فإذا بها تنفلت من لسانك، والغرض هو رصد رد فعل الشخص المستهدف، هل يطبق «التمس لأخيك سبعين عذرا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لم أعرفه» أم ستطبق «نحن الظالمون وما ظُلمنا، .. و.. ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا»؟
ان مدرسة رمضان تدعو للتفكر فيما نواجهه من ابتلاءات واختبارات، وكي نكون في يقظة دائمة، ونتسامى عندما يزل شخص ويجهل آخر، لأن هناك من يرصد ردة فعلك، وأيضا يرصد لك مكافأة.. احرص ألا تفوتك، جعلنا الله وإياك من الفائزين.
كلمة أخيرة:
قال الحسن البصري عن بدر بن معاذ: «من مثل بدر؟ بدر ملك نفسه».. ان رباطة الجأش واحتفاظك بزمام المبادرة، وعدم فلتان لسانك، مرتبة عظيمة تحتاج الى مجاهدة النفس، والتدريب المستمر في مناسبات صغيرة، حتى اذا جاء اختبار كبير كنت له على أتم الاستعداد.
[email protected]