فيصل الزامل
مثلما سعى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الى الطائف لايصال رسالة الاسلام الخالدة، فقد اتجه ايضا الى بادية نجد، ومعه أبوبكر الصديق ( رضى الله عنه ) الذي كان عارفا بشؤون القبائل، وصلا في المساء الى خيمة فسيحة، قد أوقدت امامها نار كبيرة وقد نصبت حولها آنية الطعام ولها صوت يزفر ويصفر، قال أبوبكر: (يا رسول الله، لقد اجتمع هاهنا مفروق بن سعيد، سيد هوازن، وهاني بن مسعود بن قبيصة سيد وائل، والمثنى بن حارثة سيد شيبان، وهو صاحب حربهم، وليس أعز في بادية العرب ممن هم في هذه الخيمة، فاعرض أمرك). فدخلا، وأحسن القوم وفادتهما، ثم تكلم أبو بكر وبين سبب قدومهما، وقال: (ان كان قد بلغكم انه ثمة نبي مرسل فها هو ذا) وأشار الى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال مفروق: (الام تدعو يا أخا قريش؟).
قال عليه الصلاة والسلام: (ادعو الى شهادة أن لا اله الا الله، وأني رسول الله)، ثم قرأ من القرآن، والناس مصغون، الى ان بلغ قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)، ثم قال: (وان قريشا ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، وامتنعت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد).
فقال مفروق: (ما أحسن ما جئت به يا محمد، والله أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك).
ثم تكلم هاني بن مسعود: (قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، واني أرى ان تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته الينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظير في العاقبة، وانما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره ان نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر، وهذا المثنى بن حارثة صاحب حربنا، فاسمع منه).
تكلم المثنى بن حارثة، فأثنى على النبي وما أرسل به ثم قال: (.. ان بيننا وبين كسرى عهودا لا نخفرها، وان هذا الأمر الذي تدعونا اليه هو مما تكرهه الملوك، فإن أحببت ان نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، وانما نزلنا على مياه كسرى، بعهد اخذه علينا ألا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا).
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): (ما اسأتم الرد، وان هذا الدين لن ينصره الا من حاطه من جميع جوانبه، ولا يصلح في ديننا الغدر) وتركهم وانصرف، ثم كان من امرهم الدخول في الاسلام في العام الذي تلا الحديبية، وكان من امر «المثنى» مما هو معلوم عنه في نشر هذا الدين.
لقد توقفت مليا عند التزام تلك القبائل بعهدها، وهو ما أشاد به النبي ( صلى الله عليه وسلم )، بل رأينا من عرب الجاهلية قاطع طريق مثل عمرو بن معدي كرب، يخدعه رجل فيأخذ منه عهدا ألا يقتله حتى يركب فوق ظهر الجواد ليتعادلا في القتال، فيمنحه الأمان، ثم يأبى الرجل الركوب لعلمه بشدة بأس عمرو ويقول له: (قد أمنتني، فان شئت فارجع في أمانك) فلا يملك قاطع الطريق الا الوقوف عند العهد الذي قطعه، فيتركه ويمضي لسبــيله، وهاهنا اليـوم مسلمون يعـــاهدون، ولا يرف لهم جفن وهم يخفرون العهود، ولكل منهم طريقته في التبرير لنفسه، حتى ان استلزم الأمر التستر بالدين أو الوطنية وتصوير الأمر على غير حقيقته ليوافق هواه، ما يجعلنا نحترم بعض عادات العرب قبل الاسلام، مما افتقده بعض احفادهم، بعده.