فيصل الزامل
صلاة التراويح وأداء السنن الى جانب الفرائض، وسيلة مفيدة جدا لتطويع النفس العصية على الطاعة وتطهيرها مما علق بها، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء.
قال «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» رواه البخاري ومسلم، وهي إجابة مباشرة على من ينظر الى كثرة عدد الركعات بشيء من الجفاء، تارة يستخدم تفاوت الآراء (ثمان أو عشرون) وتارة يقلل من قدرها (قليل في تركيز خير من كثير بلا تركيز) والقول صحيح اذا أريد به الحث على التأمل والسكينة، فالتراويح ليست تمارين بدنية، ويجب أن تتم في خشوع وتدبر للقرآن الكريم، ولكن بعضا من الناقدين ينفرون من كثرة عدد الركعات، التي هي أشبه بالموالاة في تنظيف البدن، ودعكه جيدا بالصابون والمفراكة، في حين يكون من يقلل العدد أشبه بمن يغتسل بالماء فقط، أيهما أدعى لتنظيف بدنه وروحه أكثر؟ لقد جاء تكرار الدعاء المأثور ثلاثا، وسبعا، لإيصال الدواء الى ما تحت الجلد في باطن الروح.
ان الاقبال على قراءة القرآن الكريم والتمعن في معانيه يفتحان للقارئ المتمعن معانيه الجميلة أكثر فأكثر، وكلما اقترب المرء حدث «زووم» برزت معه أشياء جميلة أكثر من ذي قبل، مثلما يحدث مع المصور المحترف الذي يركز عدسته على كائنات حية صغيرة، ويزيد في الـ «زووم» فإذا بمشاهد جديدة لم تر من قبل لهذه الكائنات نفسها، تبرزها تلك العدسات الصافية، فذلك شأن التدبر في آيات القرآن الكريم، قرأت - مثلا - قوله تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر) وكنت أظن المقصود هو الخسارة أي الفقدان، وبتركيز العدسة فإذا بمعنى «التناقص» يتفوق، ثم بحثت في تفسير الطبري فوجدتها «الغبن والنقصان» فالبدن والعمر يتناقصان وحتى من يكثر من المال فإنه يكثر معه حسابه، فهو في تناقص أيضا.
ثم هناك من يجيئك من جهة تكرار بعض قصار السور فينتقد ذلك التكرار، وإذا كان الاولى هو التوسط في القراءة بين الاطالة والايجاز، فإن تكرار قصار السور لا يقلل من بهائها، ألم تر الى ذلك الصحابي الانصاري يؤم المسلمين في مسجد قباء ويكثر من قراءة «قل هو الله أحد» ويجعلها مع سور أخرى يقرأها كل ركعة، فلما شكوا ذلك الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، سأله فقال «إني أحبها» قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) «حبك اياها أدخلك الجنة» رواه البخاري.
التقاط المعاني القرآنية يتطلب توجيه طبق استقبال الذبذبات القادمة من أعلى من جهة السماء الربانية بدقة متناهية، مثلما يفعل الذي يلتقط المحطات الفضائية عبر الصحون اللاقطة، فكذلك تفعل القلوب الواعية (وتعيها أذن واعية) وبالعكس من يحول الاتجاه ويفتقد التركيز، هنا يهمنا التأكيد على أن الأمر ليس حكرا على من يتمتع بالبلاغة والاحاطة الكبيرة باللغة العربية، ولو كان الامر كذلك لما وجدت مليار مسلم من غير الناطقين بالعربية يفهم كثير منهم القرآن الكريم أحسن الفهم ويشرحونه في محطات تلفزيوناتهم ومنتدياتهم في آسيا والهند وايران وتركيا، ولاقتصر ذلك على العرب، ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، علم قليل مع وعي كثير خير من العكس.
إنه شهر القرآن الكريم يا سادة، وبستان الكتاب العظيم، آية الله الخالدة يا سيدات، فقد عرفنا فيه من أخبار الحضارة الفرعونية - على سبيل المثال - أكثر مما أخبرتنا تلك الاكتشافات في المعابد والمدن المدفونة، وعرفت بنو اسرائيل من خلال القرآن كثيرا مما أضاعوه (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) فهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ثم ان المؤمنين مقبلون على لقاء مع ربهم في الجنة، فيخبرهم جل وعلا في مواجهة مباشرة من معاني القرآن الكريم ما لم يسمع به إنس ولا جن من قبل (ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان - متفق عليه) وليس بعد شرح الله جل شأنه شيء يدركه الوصف، جعلنا الله واياكم ممن يحضر ذلك اللقاء السرمدي الذي يحفه بهاء الملكوت الأعلى، آمين، آمين.