عندما ركب جيمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة الطائرة بالدرجة السياحية وهو يومئذ وزير خارجية صفق له ركاب الطائرة ترحيبا بتصرفه الذي يتسق مع الثقافة السائدة هناك بشأن المنصب الحكومي الذي لا يعتبر ملكية خاصة، ولا يرتب امتيازات لأبناء عم وأبناء خال الوزير أو الرئيس، وقد كان مشهد الرئيس بوش الأب وهو يدفع عربته في محل بقالة بعد أن ترك المنصب تأكيدا على هذا الفهم، يقابله فهم آخر في بلاد كثيرة لا يتصور معه الرئيس أو الوزير نفسه بغير هالة المنصب، ولهذا يقاتل حتى الرمق الأخير للاحتفاظ به، ولو أن المجتمع تعارف على ما هو معروف في الدول المتقدمة لتغير الأمر عندنا.
المطلوب هو الجمع بين الاستقرار في نظام الحكم وأيضا عدم احتكار السلطة التنفيذية التي تحتاج إلى تجديد في الفكر والطاقة، وإذا كانت البداية هي في النظام الدستوري الذي تتجه مصر من خلاله الآن إلى الاكتفاء بمدتين رئاسيتين، فإن الثقافة العامة هي أيضا بحاجة إلى تغيير، وقد دار حديث بيني وبين موظف في السفارة الأميركية في الكويت حول المضايقات التي يتعرض لها زائر الولايات المتحدة وذلك في السنوات التي تلت سبتمبر وما رافقها من إجراءات، فقال الموظف: «انها إجراءات عشوائية، سفير أميركا في الكويت تم استيقافه مرتين في المطارات الأميركية للتفتيش» قلت «وهو سفير؟» قال «نعم، وهو سفير، هذه مجرد وظيفة مدنية لا تمنع من انطباق الإجراءات عليه».
ذكرتني هذه المحادثة بنائب كويتي وصل متأخرا ـ قبل عدة سنوات ـ إلى المطار بعد أن أغلقت أبواب الطائرة فهاج وماج، وحاول الاتصال برئيس مجلس إدارة الخطوط الكويتية، وهدد الموظفين بعبارات غير لائقة، مثل هذه التصرفات لا تصدر عمن يخشى تغير الأيام، وزوال النعمة، اللهم احفظنا جميعا من صولة الأيام وزوال النعمة.
كلمة أخيرة: قالت الجارية لزوجة المهدي، الخليفة العباسي «بالباب امرأة تستأذن للدخول، وتقول انها زوجة مروان بن محمد»، قالت زوجة المهدي «مروان آخر خلفاء بني أمية؟ أدخليها» فلما وقفت بين يديها بملابس بالية وهيئة رثة، ووقفت في وسط مجلس نسائي يحفل بالثياب الفارهة، والأطياب والبخور، قالت إحدى الجالسات: «أتذكرين يا فاطمة يوم أن كنت في مجلسك يوم ان كان زوجك خليفة، فكنت تنهرين هذه وتطردين تلك، أرأيت ما صنع الله بدولتكم؟!»، فقالت فاطمة: «إن الذي ذكرت من فعالي هو ما أوصلني إلى الحال الذي ترين، وهذه الملابس الرثة هي عارية - مستعارة - وما نحن الا كما قال الله عزّ وجل (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) فلا تشمتي بي يا أختاه»، ثم ولت إلى الخارج وهي تنحب باكية، فأمرت زوجة المهدي بردها، وأكرمت مجلسها، ثم طلبت منها أن تقيم معها حتى تكلم الخليفة، فلما كان المساء وعلم المهدي بما دار بكى كثيرا، ثم قال «اللهم إني أعوذ بك من تحول الأيام وزوال النعمة وشماتة العدو، والله لو لم ترديها ما كلمتك أبدا» ثم التقاها بعد ثلاثة أيام استراحت فيهن، فوجد عندها عقلا ورأيا، وسمع منها ما لم يعلم من أخبار الدول السالفة، فقال لها «والله يا ابنة عمي ان لك لعقلا ولولا انا - بني العباس - لا نشرك أحدا منكم في أمرنا لاتخذتك زوجة، ولكن تقيمين معنا مكرمة معززة».
إنها الأيام التي قال الله عنها (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، فليحذر من غرته أموال أو سلطان من دورانها والتفافها عليه.
[email protected]