مشكلة الحشد الكبير من الناس ـ في الشأن السياسي ـ أن توجيهه ليس دائما في يد من يدعو للتجمع والتجمهر للتعبير عن رأي معين، فهناك في الغالب مندسون يسهل عليهم تغيير مسار هذا الحشد أو توظيفه، ففي فترة الاحتلال العراقي للكويت وجد بعض الكويتيين أنفسهم ضمن مظاهرة رفعت فيها صور صدام حسين، تم تصوير تلك الحشود التي كانت تقف في تجمع كبير عند مجمع المخابز في اليرموك، لم تظهر صورة المخبز ولا عرف المتجمهرون أن صورهم تم توظيفها في صحف بغداد في اليوم التالي ومعها عبارة «الشعب الكويتي يرحب بالقائد البطل!».
المندسون يعتبرون نجاح المسيرة مرتبطاً بحدوث احتكاك مع رجال الامن، وبالعكس اذا تمت بشكل حضاري على النحو الذي أراده من دعا لها، واذا فشل المندسون في استفزاز الناس لتوجيه عبارات تحقق ذلك الاحتكاك فليكن ذلك من خلال قذف حجارة أو دفع من ينظم الصفوف مع عبارة «ضربني... ضربني» فينفعل جاره «أفا... صرنا في ليبيا».. فيتابعه ثالث «بيخوفونكم يا جماعة... امسكو بأيدي بعضكم بعض.. هذوله جبناء»... الخ.
أذكر أنه في احد الانتخابات الطلابية في جامعة الكويت أن طالبا غير معروف دخل الى قاعة صباح السالم حيث كانت تجري مناقشة التقرير الاداري والمالي لاتحاد الطلبة عام 1974، وعندما طلب منه مسؤول الامن ابراز هويته كطالب، وكانت في جيبه، رفض اخراجها وانفلت داخلا بسرعة فلحق به رجل الأمن، فصرخ بصوت عالٍ وهو يظهر أنه يشتبك به، قائلا «لا تطق.. لا تطق... هذا انتوا.. اللي مو معاكم تطقونه».. كان المسرح مليئا بالطلبة والطالبات الذين لم يكونوا يعرفون ما يجري، غير أن عبارة تم تناقلها «هذا فلان... يطقونه».. سرت بين الطلبة بسرعة البرق وكانت سببا لشهرته في لمح البصر!
في ميدان التحرير كانت الحشود لا تتعدى الخمسة آلاف في بداية الحدث، الا أن تركيز كاميرات قناة الجزيرة على وسط الميدان ليومين كاملين رفع الرقم الى مئات الالوف، واليوم انحسرت الاحداث عن تغيير كبير يرتبط نجاحه من فشله بالتخلص من فلتان الحشود التي لاتزال تتجمهر وبداخلها مندسون، تارة يقتحمون حفل زواج وبأيديهم أسلحة لسلب ما في يد النساء من حلي، وتارة يسيطرون على دوائر حكومية ما تسبب في شلل عمل تلك الدوائر، ولا يدري أحد من يوجه تلك المجموعات التي تتحدث بشكل عشوائي عن تعيين فلان والغاء القرار الفلاني في مطالبات فردية لا تسلم من الغرض الشخصي.
اليوم تنوي مجموعة في الكويت تنظيم مسيرة لن تكون استثناء من تلك الممارسات، فهناك أصحاب غرض وخصومات شخصية مع سياسيين، وسيكون المشاركون في المسيرة وسيلته لتحقيق غرضه، وسيكتشف المشاركون أنهم استخدموا بعد فوات الاوان، كالعادة، فالكلام عن تغيير شخص رئيس الوزراء ليس سقفا في سلوك الحشود التي لن تكون تحت سيطرة حتى من دعا اليها، مع الاسف الشديد.
كلمة أخيرة: «ادعاء الحكمة بأثر رجعي» وصف صحيح يستخدمه الزميل سامي النصف، وهو ينطبق على من يشارك أو يؤيد الانزلاق ثم يتحدث منتقدا لذلك التصرف في وقت لاحق، وسنسمع كثيرين يمارسون مثل تلك الحكمة ولكن بعد فوات الاوان، وأما اليوم فمن يسهم في التجمهر هو وقود لغيره، وقد سئل أحد الداعين للتجمهر: «هل يعني تغيير رئيس الوزراء أن يحل الاستقرار؟».
قال: «لا».. فكشف بذلك أن الاجندة هي تدمير وطن، لا تعميره، ولا فائدة عندئذ من السؤال، هل تم ذلك بحسن أو سوء نية؟
[email protected]