كنت في القاهرة لثلاثة أيام، يتحدثون هناك بكل جدية عن أن «النجاح الحقيقي للثورة يتمثل في استئناف الحياة الطبيعية بغير اهتزازات ارتدادية».. و«ضرورة عدم جعل الشك والتشكيك في كل شيء هو الخبز اليومي للرأي العام، فالنيابة تقوم بدورها تجاه المخالفين».. ولكن «الحياة اليومية للمواطنين تعتمد على همة ونشاط الجهاز الحكومي الذي يجب أن يعمل بغير خوف، الناس تنتظر نتائج ومصر تستاهل الأفضل».
ويتحدثون أيضا هناك عن ان «السبب الرئيسي للانحراف هو زواج المال مع السلطة، فمن يريد العمل في الاستثمار فيجب أن يبتعد تماما عن السلطة وعليه أن يتحمل نتائج العمل الاستثماري من ربح وخسارة بغير لف ولا دوران، وأما من يتحمل مسؤولية العمل العام فيجب ألا تكون له صلة منفعة بالمتعاملين مع الجهاز الذي يشرف عليه، فهو مواطن ومنفعته الرئيسية هي في انتعاش الدولة وتطور الخدمات فيها مثل أي دولة متقدمة، هذه هي صفته، وبسببها ينال حقوقه واحترامه، وبغيرها يكون عدوا للشعب ولنفسه» انتهى.
الحقيقة أن النموذج المصري في التغيير ـ حتى الآن ـ مقارنة بغيره في المنطقة العربية هو الأفضل، فباستثناء حادثة الجمال والحمير وتصرفات البلطجية التي ارتدت عليهم، لم تتعرض مصر لخسائر بشرية كبيرة مقارنة بتغيير ضخم جدا، أنت تتحدث عن نظام عمره ستون عاما، تمت إزاحته بشكل حضاري جدا، وهو حضاري الى الحد الذي لا يتمتع الناس في مصر بتوجيه الشتائم لذلك النظام، فهو بسيئاته وحسناته قد ذهب الى ذمة التاريخ، ولكن «كفاية»، هذا شيء نادر في الثورات، بل يتحدثون هناك عن الأشياء الجيدة في تلك الفترة مثل تحرير سيناء في عهد السادات.. ويصفه بعضهم بالشهيد، والسد العالي في عهد عبدالناصر الذي أنقذ مصر من انخفاض مستوى النيل في السنوات الأخيرة بعشرة أمتار... الخ، «خلونا نستفيد من انجازاتهم، وإذا إحنا شاطرين بلاش نكرر أخطاءهم.. وخلاص».
شيء غريب اللي بيحصل في مصر، الثورات عادة تنشر الغل في نفوس الناس، ويتلذذ القائمون عليها بتعليق الناس على المشانق، النفسية التي رأيتها مختلفة تماما، إنها تشبه النفس الذي يتحدث به عمرو خالد وقبله الشيخ محمد متولي الشعراوي، وإعلاميون لامعون من الجنسين ظهروا في الفترة الأخيرة على الشاشة المصرية، يتكلمون في برامج بعضها سياسي وبعضها متخصص في الأمور الاجتماعية وحتى النفسية، كلهم يتحدثون بنضج كبير على اختلاف نوعية مواضيع تلك البرامج.
غادرت القاهرة حاملا معي أملا كبيرا في رؤية تجربة عربية تماثل تجربة تركيا، تكون قدوة عربية لبلادنا التي تعبت من النماذج الفاشلة وهي أحوج ما تكون الى نموذج عربي ناجح تقتفي أثره.
كلمة أخيرة: بعد انتصار عبدالملك بن مروان على عبدالله بن الزبير جاء إليه رجل يحمل كيسا ضخما مليئا برسائل وجهها بعض ضباط جيشه إلى ابن الزبير قائلا له «خذ يا أمير المؤمنين، هنا تعرف من خانك، اقرأ أسماءهم»، كان الوقت شتاء، وكانت أمام عبدالملك نار عظيمة تشتعل للتدفئة، فقال للحارس «احمل هذا الكيس وألقه في النار، لا يوجد في جيش عبدالملك خائن واحد».
هذه الثقة بالنفس هي التي اعتمد عليها في إعلان الصفح العام، فتغير مسار نفوس الناس من تصفية حسابات الى تصفية نفوس وبناء دولة.
[email protected]