فيصل الزامل
كيف يمكن الجمع بين حاجة الدولة الى الهيبة وما يتطلبه ذلك من حزم ربما يصل الى الشدة في تطبيق النظام العام، واللين مع الناس وكسب قلوبهم، قال الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
كان صلاح الدين حازما في ادارة دولته ما أوصله الى ادارة جيوشه الجرارة بكفاءة حققت له أروع النتائج، ولكن غير المشهور عنه هو رأفته الشديدة الى جانب ذلك الحزم، يقول القاضي ابن شداد، وكان من معاصري صلاح الدين ومن القريبين منه «سمعته ينادي خادمه وقت الظهيرة: يا غلام، كرر ذلك حتى جاء الغلام وهو يتأفف قائلا: يا غلام يا غلام، أليس للغلام وقت يستريح فيه؟! سمع صلاح الدين كلامه وهو صامت ثم صرفه، ولو كان غيره من الحكام لأوقع به، وجاءه رجل في حاجة له وهو في معسكره، فلقيه عند باب خيمته قال له صلاح الدين أقضي لك حاجتك غدا، فقال الرجل ولم لا تقضيها الآن؟ فقال السلطان ليس معي إداوة - قلم وحبر - فقال الرجل ادخل الى خيمتك وأحضر الاداوة، فلم يزد السلطان على أن دخل خيمته وأحضرها وأمضى للرجل حاجته». انتهى.
انه صلاح الدين الذي اجتمعت جيوش ملوك أوروبا لمواجهته فهزمها جمعاء، ولم يكن ذلك على حساب خلقه الرفيع كما فعل هولاكو وجنكيز خان، بل كان يطلق سراح الأسرى الفقراء بغير فدية، ويرسل طبيبه الخاص الى ريتشارد قلب الأسد قائد جيوش الصليبيين لعلاجه، انها صفات عظيمة، ولكن هل يستطيع كل حاكم أن يجيد الجمع بينها وبين الحزم والحسم؟ أم ان ممارسة هذا اللين يسبب سوء فهم لدى البعض فتكون منهم جرأة على الدولة؟
ذهب عمر الى حذيفة بن اليمان في داره، فرحب به حذيفة وقدم له شيئا يجلس عليه فدفعه جانبا وجلس على الأرض وقد بدا عليه الهم الثقيل، قال «يا حذيفة ان الله عز وجل يقول (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات...) واني أحمل الدرة وأضرب بها وتكون مني غلظة، هل أكون أنا ممن يؤذي المؤمنين والمؤمنات؟» قال حذيفة «أنت أمير للمؤمنين، ولابد للأمير من أن يسوس الناس وينهى مسيئهم وأن يرد المتعدّي منهم، فلست ممن يؤذي المؤمنين والمؤمنات».
اذن هذا الهم يحمله كل حاكم يهتم بتطبيق العدالة ولكن بغير تجاوز الحدود، إلا أن هيبة الدولة ليست هي الثمن لهذا الحذر، فان الهيبة هي أهم وسيلة لتطبيق القوانين والنظام العام، فالدولة لا تحكم البلاد بوضع خفير عند رأس كل حارة ولكن بمعرفة الناس أن المتعدي سيجد العقاب الصارم والفوري.
يقول الأمير سلمان بن عبدالعزيز «في سنة من السنين خرجنا الى النزهة في الصحراء قبيل عيد الأضحى فوصل بنا المسير الى بيت شعر، نادينا أهله واذا كلهم نساء وأطفال، سألنا الأم عن رجالهم فقالت ذهبوا الى الحج، قلت لها: أنتم في البادية وحدكم، ألا تخافون؟ فقالت: والله من حكم الملك عبدالعزيز ما جرى علينا إلا كل خير، واللي نسمعه من أهلنا قبل ما عاد شفناه ولله الحمد»، ومما يروى عن بن جلوي حاكم الأحساء، أن رجلا في الصحراء كان يحاول اصطياد ضب قال وهو يخرجه من جحره «تعال، ما يفكك مني ولا بن جلوي» سمعه رجل آخر من وراء الرمال فأوصل كلامه الى بن جلوي، فلما التقى الرجل قال له بن جلوي «أنت تقول كذا وكذا؟» بهت الرجل وقال «وش دراك؟» فقال «خبرتني الضبان»، وانتشرت بين الأعراب مقولة هي مزيج بين الطرفة والمغزى: «بن جلوي تعلمه حتى الضبان» وكانت لتلك الهيبة قيمة كبيرة في نقل الدولة من حالة الغزو والسلب والنهب وذلك التسيب الأمني البغيض، الى حالة الانضباط الكبير ما أدى الى حماية الناس في أرواحهم وممتلكاتهم.