فيصل عبدالعزيز الزامل
تقبلت فرنسا المجتمع الإسلامي في مدنها المختلفة كحقيقة واقعة وهي تتعايش معه بطريقة حضارية، بما في ذلك حق القوميين في انتقاد هذا الوجود المتنامي، فقد استعدت سلاسل «السوبر ماركت» الفرنسية لقدوم شهر رمضان بتوفير احتياجات المسلمين مثل لحوم الضأن الحلال المقطع بأشكال متعددة والبلح والتين التونسي وغيرها من الأطعمة في ظل ارتفاع الطلب على هذه الخدمات بمعدل 15% سنويا، وبالمثل في المعاملات المالية الموافقة للشريعة حيث تقود الجهات الرسمية حملة لاستقطاب تلك المعاملات على أراضيها، وقد افتتح العام الماضي معهد في مدينة ستراسبورغ للتدريب على هذا النوع من المعاملات، كل ذلك يجري في بلد يقوم نظامه على العلمانية التي تختلف عن علمانية «القلة» في بعض الدول العربية، أقول «قلة» استنادا إلى نتائج الانتخابات في معظم تلك الدول، فالعالم الغربي اليوم يتفهم المتغيرات التي أوصلت «اوباما» إلى رئاسة الولايات المتحدة، وقبل ذلك تلقى وصول «اردوغان» الى رئاسة الوزراء بالقبول قبل أن يفعل ذلك قادة الجيش التركي.
الذي يهم الدول المتحضرة ليس مبدأ التغيير ولكن نوعيته، وتأثيره الايجابي في طموحات تلك الدول، ولن يقبل أحد تغييرا يبطئ من انطلاقة الدولة على مختلف الأصعدة، وهو أمر يجب أن تدركه حتى القوى الإسلامية التي تدفع في هذا الاتجاه كي تكرر النموذج التركي في التعايش، فليس من الإسلام في شيء إلغاء بقية الأديان أو الآراء ولا التضييق عليها، وقد استمعت إلى حديث تلفزيوني للأستاذ محمد العوضي نقل فيه ما يلي «أخبرني ابن الشيخ محمد بن عثيمين أنه عندما ذهب الى بوسطن للعلاج من مرض السرطان، دخل الى الفندق فلقيته امرأة مع ولدها الصغير عند مدخل الفندق، نظر الفتى مشدوها إلى هذا الرجل المسن وهو باللباس العربي، ودار الحوار التالي:
- - قالت له أمه وهي تشير الى الشيخ «قل له مرحبا» ففعل.
- - فأجابه الشيخ بتحية مماثلة بالعبارة التي عرفها «باي، باي».
- - فوجئ بمرافقه السعودي يقول للمرأة بالعربية «روحي الله ياخذك».
- - تعجب الشيخ وقال له «لماذا؟ ماذا قالت لنا؟».
- - فقال: «طلبت من ابنها أن يحييك».
- - قال الشيخ: وبعد ذلك ترد عليها بهذا الذي قلت؟ كيف؟
- - قال: ألا ترى لباسها؟
- - قال: هذا شيء تتحمله هي، وديننا يلزمنا برد التحية بأحسن منها».
لقد أظهر التغيير الذي شهدته البلاد العربية استعدادا طيبا لقبول الآخر، وإقبالا كبيرا على الممارسات الحضارية سواء في مجال الاقتصاد أو الطب او العلوم الأكاديمية، وحقق التغيير مشاركة فعالة من قبل المجتمع الإسلامي - وليس الحركات السياسية الإسلامية حصرا – في رأب صدع المجتمع إزاء التحديات التي تطرحها العولمة على سائر شعوب الأرض - فرنسا وألمانيا في مقدمة المتذمرين من التأثيرات السلبية للعولمة - هذه الجهود هي محل تقدير القوى المتفتحة التي لا تنظر إلى الوراء وتعتبر أن الصراع الثقافي هو حقيقة أزلية، وتركز فقط على الممارسات السلبية، بل هي في الحقيقة تريد لهذه السلبية أن تكثر وهي تستاء من تراجع حجمها، هذا من اللدد في الخصومة، وهو أمر كريه.
إنني أعتبر المواطن الذي يمارس الوفاء في المعاملات أكثر مصداقية من غيره حتى وإن كان غيره أكثر تدينا فالدين المعاملة هو شعار صحيح، وصحت به الآثار الإسلامية نفسها، وهؤلاء كثر، وإذا نقصهم شيء في العبادات فهو أمر يخصهم، وقد قال عمر رضي الله عنه «أظهروا لنا أحاسن أخلاقكم، وأما سرائركم فإنا نكلها إلى الله».
كلمة أخيرة:
كتب الأستاذ الكبير راشد عبدالله الفرحان مقالا ضافيا حول موضوع افتتاحية «القبس»، ونشرته «القبس» مشكورة، وقد أثبت فيه عصارة خبرته القانونية والدستورية وحنكته السياسية والاجتماعية، وهو صوت «الحكماء» الذين تحتاجهم البلاد، وتريد أن تسمع رأيهم بين الحين والآخر.
شكرا كثيرا «بورياض».