تختلف طبيعة عمل المصرف التجاري عن الاستثماري في أن الأول يحتفظ بودائع ذات استحقاقات قصيرة الأجل الأمر الذي لا يسمح له بأخذ مراكز ائتمانية عالية المخاطر والعوائد، وليس هذا هو حال النوع الثاني من المصارف، وإبان الأزمة العالمية اتجهت بنوك وشركات الاستثمار الى تملك بنوك تجارية سعيا وراء ضمان تدفق السيولة لتمويل احتياجاتها قصيرة الأجل، وقد تحولت السلطات الرقابية الأميركية من التردد في منح ترخيص لها للعمل كبنك تجاري إلى جانب العمل كبنوك استثمار - غولدمان ساكس، جي بي مورغان – وهذا الموضوع جدير بالنقاش، حيث تمت الإشارة في «ملتقى الكويت المالي» إلى أن هذا الأمر مقبول إذا ما استطاعت البنوك أن تضع جدارا فاصلا بين هذين النوعين من النشاط، وليس سرا أن البنوك الإسلامية تمارس الجمع بين النشاطين منذ 30 سنة، ولم تحدث إخفاقات تذكر بسبب الخلط بين الالتزامات قصيرة الأجل تجاه المودعين والارتباط باستثمارات طويلة الأجل، للأسباب التالية:
- 1 - عدم استخدام حسابات الوديعة الاستثمارية لتمويل عمليات استثمار، والاكتفاء بتمويل المستهلك بالنظر إلى أنه يدرّ تدفقات منتظمة تختلف عن العمليات الاستثمارية الأخرى.
- 2- استخدام الحساب الجاري وفائض رأس المال عن الاحتياطيات، إضافة إلى خطوط التمويل والرفع المالي المتحفظ لتمويل العمليات طويلة الأجل.
- 3- تجهيز كفاءات بشرية قادرة على التعامل مع الاستثمار المباشر، بعيدا عن متطلبات الائتمان المصرفي التقليدية.
- 4- الفصل الإداري والمحاسبي التام بين الأنشطة في مراكز مالية مستقلة، وحدود انكشاف مأمونة، ونظام تبادل معلومات نشط عن المراكز الائتمانية للعملاء.
هذا النجاح قد لا يتحقق إذا انزلق المصرف إلى عمليات استثمارية لصالح كبار المساهمين وتساهل في تطبيق معايير الائتمان، وهو ما يجعل القول بتطبيق «جدار الصين الفاصل بين التجاري والاستثماري» ربما محل تساؤل لدى السلطات الرقابية سواء الحكومية أو الفنية كمكاتب التدقيق والتصنيف الائتماني.
لقد كان الالتزام الطوعي بالحوكمة من جانب «البنوك الإسلامية» سببا للتطبيق الآمن لمعادلة الاستثمار والصيرفة تحت سقف واحد.
قال د.عبدالستار أبوغدة في بحثه القيم الذي طرحه الأسبوع الماضي في «المؤتمر الفقهي الثالث للمؤسسات المالية الإسلامية»: «من الأهمية إثبات التعدي من عدمه في إدارة الاستثمار وذلك للتفريق بين ادعاء الخسارة وتحقق الإعسار، هذا التفريق ينزل بمنزلة الضرورة حتى لا يحجم الناس عن العمل» وبحث د.حسن حسان الهام: «إذا أتى المضارب فعلا أو تصرفا مخالفا كان متعديا ولزمه ضمان ما يترتب من أضرار فعله»... وغيرهما من أبحاث تحولت إلى معايير مهنية، وسياسات ائتمانية ومنهج عمل على مدار ثلاثة عقود أو أكثر.
لقد مضى الجزء الأخطر من الأزمة الاقتصادية العالمية ومن الأهمية الإفادة من دروسها، وقد رأينا كيف تتكرر الأخطاء بسهولة بعد انقضاء الأزمات ما يتطلب أن تكون المعايير المهنية راسخة في نفوس أفراد الجهاز الفني وداخل الدورة المستندية، تحيطها الحصافة التي لا توقف العمل، والأمانة التي تحفظه من العثرات.
كلمة أخيرة:
وصلت إلى تركيا فجر يوم الاثنين من عام 1994 مع العم أحمد البزيع يحفظه الله، واتجهنا مباشرة الى بيت التمويل الكويتي - التركي، أفطرنا هناك وباشرنا العمل حتى الثالثة ظهرا، وقبل الذهاب الى الفندق للراحة قال بومجبل: «اليوم الاثنين وغدا الموعد الأسبوعي للهيئة الشرعية، وقد علمت أن هناك طائرة تغادر الليلة الى الكويت، لا أريد أن أفوت الاجتماع»... رجعنا في نفس اليوم، كان هذا هو دأبه على مدى 33 سنة محتسبا ما عند الله.
والله إن الكلمات لا توفيك حقك يا عم، نسأل الله القدير أن يجزيك عنا أوفر الجزاء، وأجزله.