هؤلاء الراحلون من دار الفناء الى دار البقاء، اين حطت بهم الرحال الآن؟ لقد مشت قوافلهم عقودا طويلة من الزمن في رحلة الحياة وحملت تلك القوافل الكثير من خيار الناس ممن تجملوا بأطيب الشمائل، وها قد وصلت بهم الى منازل الآخرة تتقدمهم رائحة ذاكية تفوح بنكهة اخاذة من عبق صالحات الاعمال، تسبقهم تلك الروائح الطيبة الى صفوف الملائكة الواقفة في استقبالهم، تناديهم من بعيد مستبشرة بمقدمهم، قبل ان يصلوا الى مراتبهم (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).
هؤلاء الراحلون تركونا خلفهم حزانى لرحيلهم، اما هم فإنهم أكثر خلق الله سعادة وفرحا بلقاء جميل كله بهجة وسرور، لقاء قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم «من احب لقاء الله احب الله لقاءه».
كان هؤلاء الراحلون يترقبون يوم المغادرة منذ سنوات طويلة، يخرج احدهم من بيته في هواجر الصيف اللاهب لاداء الصلاة، ويعس في الليل الدامس الى بيوت مستورة يمدها بما يكف وجوها كريمة عن ذل السؤال، واذا عرضت لاحدهم فرصة كسب غير مشروع قال (اني اخاف الله)، نعم قال لي والدي رحمه الله عن الدروب التي تخالطها الشبهات في جمع المال «أعرفها زين يا ولدي، وهذيل ما يغلبوني عليها، بس وين اروح من الله؟»، وكان جدي وعماي يقولان مثل ذلك من قبل، رحمهم الله جميعا واغناهم بحلاله عن حرامه.
لقد افضى هؤلاء وامثالهم الى ما قدموا، ومن هنا جاءت فرحة اللقاء، بينما يقدم «الظالم لنفسه» على رب غضبان وملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما امرهم، لهذا تسمع من بعضهم «انا اخاف من الموت».
أن تفقد والدا، فهذا شيء جار، اما ان يكون رفيق درب، اصدقاؤه اصدقائي، ذكرياته ذكرياتي، ومنذ نصف قرن اروح واجيء معه في الكويت وخارجها، فهذا ليس رحيل اب فقط، لكنه فقد اب وصديق عزيز ومجتمع بأكمله.
لقد تدفقت على مجلس العزاء حشود من اهل الكويت الكرماء رجالا ونساء، حتى فاضت بهم شوارع منطقتي العزاء، وهو تكريم منهم لا ينسى ابدا، وتعبير عن تقديرهم لجيل كريم، كان الوالد يرحمه الله علما عليه، حتى قال د.عبدالعزيز السلطان «والدك وعمك درسوا نص اهل الكويت، من جيلنا»، شكرا يا بوطارق، ولكل من كتب في الصحف من الزملاء الاعزاء.
شكرا لكم فردا فردا يا اهل الكويت، ومن القلب نقول لكم: جزاكم الله خيرا، وحتى من حالت الظروف دون قدومه فله الشكر ايضا، نعم، لقد جبل اهل هذا البلد من مواطنين ومقيمين على الوفاء، وحب عميق لاهل الفضل في الشمائل، وقديما قيل «لا يعرف الفضل لاهله الا ذووه».
لا اراكم الله مكروها في عزيز.
كلمة أخيرة:
قتل اخ لعمر اسمه زيد بن الخطاب في معركة اليمامة، رضي الله عنهما، فقال عمر لمتمم بن نويرة وهو شاعر رثى أخا له مات في الجاهلية «اعد علي ما قلت في أخيك، لعلّي ارثي زيدا»، فقال الشاعر «لقد مات اخي في الجاهلية، ولو مات على ما مات عليه زيد ما رثيته»، فقال عمر «حسبك، ما عزاني احد بمثل ما عزيتني به».