في إحدى الديوانيات كانوا يتحاورون عن قانون المديونيات، سألتهم «هل تعرفون فلانا؟» لم يعرفه أحد من الحاضرين رغم أنه كان نائبا في مجلس الأمة ثم وزيرا استخدم صلاحيات منصبه كوزير لخدمة صفته الأساسية كنائب، كان يسعى ليل نهار للإفادة من كرسي الوزارة لضمان فوزه في الانتخابات القادمة، تعيينات وترقيات ومخالفات بالجملة ومع ذلك فشل في الانتخابات، هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة مصارحة من نواب يظنون أن مسايرة الطلبات الجائرة من بعض الناس هو صك ضمان بعودتهم إلى ذلك الكرسي، استعرض إن شئت أسماء كثيرين فشلوا في العودة إلى المجلس ممن وقع في كل أنواع المحذورات، لقد عاكسوا قناعاتهم بطريقة مقززة، ومن جمع منهم الكرسيين ـ نائب/ وزير ـ ومارس البهلوانية السياسية حتى لا يتم استجوابه انتهى به الحال إلى نفس النتيجة، ذهب الكرسي وبقيت أوزاره، والسبب هو ذلك الوهم الكبير الذي يعشش في أذهان عدد من النواب والوزراء.
نعم، أيام الانتخابات تحكمها عوامل وأجواء مختلفة، مثل تحالفات المجاميع الانتخابية، وطموح قادمين جدد، في تلك الأجواء معظم الجمهور لا يذكر ما حدث في جلسة القروض أو الرياضة، حينما تتقدم التحالفات الانتخابية وعوامل أخرى جديدة على «وفاء الإنسان لأخيه الإنسان» الذي داس على كل القيم ليضمن صوته، هذا الوهم ينقشع تدريجيا تحت تأثير المعطيات المستجدة، ونحن لسنا استثناء في هذا السلوك، فقد خسر شارل ديغول الشارع الفرنسي رغم أنه قاد تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، وخسر تشرشل الانتخابات العامة بعد الحرب مباشرة سنة 1945، رغم أنه كان الصخرة الصلبة التي تصدت «لبلطجة» هتلر، وحتى الرئيس الأميركي بوش الأب الذي أزال عقدة ڤيتنام من نفوس الأميركيين بعد حرب عاصفة الصحراء فقد نسي هؤلاء كل شيء وصوتوا لبيل كلينتون، حسابات الحقل ليست دائما كحسابات البيدر.
باختصار، من العار أن يمارس البعض عبودية بسبب وهم، فالموفق هو الله عز وجل، وهو الذي سيحاسبك في نهاية المطاف، وقد دخل الخليفة هارون الرشيد غرفة في بيت الفضيل بن عياض، وهو من علماء المدينة المنورة، أثناء قدومه إلى الحج، تحاشى الفضيل لقاءه فأصر الرشيد، ودخل الغرفة يبحث عنه وكان قد أطفأ السراج، سبقت يد الرشيد الى يد الفضيل، فأمسك بها قائلا: «ما أنعمها من يد إن نجت من عذاب الله غدا» فلما أضاءوا السراج نظر إليه الفضيل قائلا : «أنت يا حسن الوجه الذي سوف يحاسب عن كل هذا الخلق يوم القيامة!».
لقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من وال يلي شيئا من أمور الناس إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله، يوقف على جسر من النار فينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسنا نجا بإحسانه وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فيهوي به في النار سبعين خريفا» قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث «واعمراه، من يتولاها بما فيها» انتهى.
إن النائب الذي أعلن أنه تسبب في توظيف 600 شخص بينما هم لا يزاولون العمل ومع ذلك تصل إليهم رواتبهم في بيوتهم أو مزارعهم، هذا النائب امتلك الشجاعة للاعتراف بينما لم يقدر غيره على ذلك فهم شركاء في الإثم مع من يأخذ رواتب بلا مقابل، في حين يحاسب بقية الموظفين على الأداء وتصدر بحقهم تقارير دقيقة يحصلون بموجبها على الترقية أو لا يحصلون، بينما قد تسمع ممن يقبض «بلا عمل» اعتراضا على حصوله على تقدير جيد فقط، ويطالب بتقدير امتياز مقابل عدم التزامه بالعمل!
كلمة أخيرة: كانت عمة عمر بن عبدالعزيز تنقل له مطالبة أبناء عمومته بفتحه الخزائن لهم، استمع إليها وكان يقلب دينارا من ذهب في نار المدفأة بملقط كان في يده، فلما فرغت رفع الملقط وقد احمر الدينار من شدة الحرارة ثم قال لها: «يا عمة، أترضين أن يكوى ابن أخيك بهذا هنا؟» وقربه من جبهته «أو هنا» وقربه من خده الأيمن «أو هنا» وقربه من خده الأيسر، ثم قرأ قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون). فخرجت من عنده قائلة لمن كان ينتظر الخبر «لا سبيل لكم إليه».
[email protected]