أخبرنا الله سبحانه وتعالى، بوجود خمس لا يعلمهن إلا سواه، (الروح - الغيث - ما تحمل كل انثى - ما تدري نفس بأي ارض تموت وما تدري نفس ماذا تكسب غدا - الساعة). ورغم أننا على يقين تام بأننا لا نملك المستقبل، ولا يمكننا معرفته والاطلاع عليه، ولا نعرف ما تحمله الأيام لنا من احداث ومفاجآت، وتغيرات جذرية كانت أم جزئية، إلا انه تبقى هناك مفاجأة تختلف عن بقيتها من المفاجآت، مفاجأة قد نجد صعوبة في التأقلم معها لشدة قسوتها على النفس، في حين وقوعها.
مفاجأة نصطدم معها وجها لوجه، تهمس في آذاننا، كيف خطف الموت اعز وأغلى أحبابنا؟ فلا طعم، ولا قيمة، ولا معنى بدونهم تصبح حياتنا، ويبدأ الصمت والبكاء يملأ جوارحنا، والكلمات تتوه حروفها في محانينا، والذهول والكآبة ترتسم على ملامحنا.
ننغمس بحالة من الحزن الشديد، وننغمس بتلك الأسئلة غير المجاب عنها، فنعيش في محاكاة بين الحقيقة وبين الهلوسة، كيف نغفل؟ كيف نسهو؟ كيف نضحك وننسى؟ ذلك المصاب الجلل؟ فهو من الحقائق الثابتة، والتي لا يد لنا فيها، كما انه من اقسى أنواع الفراق، واكثرها ألما وشجنا، فلا لوم علينا ولا عتاب حين يبكينا.
فحين توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها، حزن عليها خير البشر حزنا شديدا، وقال حينها: «انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة»، كما بكى على وفاة ابنه إبراهيم، مما أدى إلى استغراب الصحابة منه، ليخبرنا وليعلمنا بأن البكاء على الراحلين رحمة من الله سبحانه وتعالى، لكن الإفراط فيه، وترك النفس للحزن بلا عزاء، فهذا هو غير الجائز عقلا ودينا.
وحين توفي هو صلى الله عليه وسلم، اضطرب الصحابة من بعده، (منهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية)، من هول الصدمة.
نعم فإنه «الموت»!!
ذلك الذي يفاجئنا بشكل غير محسوب، فيشتت عقولنا، ويصعق قلوبنا، ويشعل النيران في أرواحنا، لكن مشيئة الخالق فوق كل شيء، وإرادته فوق إرادتنا.
في حين لو تمعنا وتأملنا قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، قد نستشعر بنوع من الهدوء والطمأنينة والسكينة، التي تربت علينا، وتخفف من انهمار دموعنا.
فتأملها يا من فقدت امك أو أباك، ذلك «الأب» الذي لا يقدر بثمن، ولا عوض عنه أبدا، ولا يضاهي سعة قلبه احد، تأملها يا من فقدت فلذة كبدك، او فقدت أخاك أو أختك، أو فقدت عزيزا على قلبك، كان مهوى فؤادك وموضع سرك، تأملها يا من خنق الحزن جميع أنفاسك وهمسك.
تأملها، وخفف من وطأة حزنك وألمك، لا تضجر من الدنيا فكلنا ضيوف على أراضيها، راجعون إلى الباري سبحانه، لسنا باقين بشكل ابدي فيها.
تأملها، يا من تماسكت وتحملت، وكنوح الثكالى قد نحت، وحمدت الله على مصيبتك من ثم استعنت.
ستتجاوز اثر تلك الصدمة الصعبة مع مرور الأيام، ذلك لأن الله انعمنا بنعمة عظيمة اسبغها علينا، نعمة جعلها وسيلة لنا لإكمال حياتنا، فلولاها لأصبحت جحيما دنيانا.
يبتلينا بالمحن والإحن، فهذه سنته تعالى، لكنه لا ينسانا، يريدنا ان ننمو بمصائبنا، ونتعايش معها بشيء من الاحتساب، ليرسل لنا حلولا لمعضلتنا فيما بعد، من حيث لا ندري.
حنون، غفور، رحيم ربنا معنا مهما خطر على بالنا، عظيم بعفوه علينا، بما لا يحتمل المقارنة.
فالحمد لله في المنع والعطاء، والحمد لله في اليسر والبلاء.