قد يبدو مصطلح الرومانسية لدى البعض مقتصرا فقط على الحب بين المرأة والرجل، ولكن الرومانسية في الأصل هي مفهوم عواطف ومشاعر لدى الفرد، تحاكي نظرته للحياة وتعامله واهتماماته النابعة من انسجامه مع ذاته.
في الزمن القديم، كانت الرومانسية حاضرة وبقوة حتى تشبع بحكاياتها جيلا بعد جيل، فهم تناولوا هذا المعنى ببساطة، لم يلتفتوا للمادة، ولم ترسخ معاني الحب لديهم في العطاء الملموس، بل كان عطاؤهم عطاء نفوس.
دارت بينهم مناظرات شعر وخطابات ورسائل، مفرداتها دوما تسند خيال التعبير للطبيعة، وتبحر في معان عميقة، لو اتينا إلى تعريف كلمة رومانسية في المعجم العربي لوجدناها كالتالي: (آداب) رومانتيكية، نزعة في جميع فروع الفن تعرف بالعودة إلى الطبيعة، وإيثار الحس والعاطفة على العقل والمنطق والإعلاء من شأن الخيال، وتقوم على معارضة الكلاسيكية.
إذن، الرومانسية هي تصرفات تشتق من محاكاتنا لكل بسيط ، للطبيعة من حولنا، للتناغم الذي يسري في روحك، ويعلي شأن وجودك حتى تصبح ترى حياتك لها هدف ومعنى، وذاتك لها دور ومغزى، ألا تعتاد على أي شيء لتظل في منطقة الأمان، بل تكتشفه بشكل آخر آخاذ، ولا تتجاوزه لترى الأعيان أنك قادر وهمام، بل ان تكون مشاعرك حاضرة في كل وقت وزمان، لا تخرس صوت ندائها، ويكون خيالك خصبا، تزرعه كل يوم في ارض.
لتكون رومانسيا لابد ألا تكون منسيا، وان تجعل علاقتك بالأشياء علاقة وثيقة، ان تنبهر بالجديد، وتصبح نظرتك لكل شيء نظرة تحييه، وتبحث عن مواطن الجمال فيه.
في هذا الوقت أصبحت العاطفة تقل أو تضطرب فتتخذ مسارا آخر غير الذي خلقت لأجله، فتجد الناس اصبحوا اما في وصال دائم، خال من الحياة، أو في خصام وعراك مع الحياة، غاب لدينا حس الشعور، وربما أسسناه للتعاطف الذي ـ للأسف ـ أخذنا للعاطفة الزائدة وليست الاصلية، التي تحرك الواقع وتثير البلابل وليس الداخل، فنجد انفسنا تعتاد على مناظر تبعثها مواقع التواصل، سواء صور الحروب أو خراب البلاد، وجهنا عواطفنا نحو إثراء هذه المشاهد، وبعدد ما رأيناها، اصبحت عاطفتنا متأثرة وثائرة، حتى غاب اثرها على ذاتنا، عواطفنا حين لا نشبعها بالارتواء، تجف لتصبح ارضا صلبة خالية من أي نبت جديد، تملؤها مساحات شاسعة من سوء التقدير، لذلك ما يوجب عليك القيام به في هذا الوقت الذي اصبح كل شيء فيه سريعا، أن تعود لاتصالك الاول مع الاشياء حولك، في المراحل التي تمر بها بيومك ابتداء من استيقاظك وتأملك في النور، كيف يتسلل ليجد له طريقا وحضورا وانتهاء في السكون، قبل ان تنام، كيف لكل شيء مزدحم في النهار، ان يصمت ويهدأ ويصبح أقل اصطداما.
رومانسيتك ليست بالحب الافلاطوني ولا في العذاب، بل في نظرتك للحياة ومزاولتك التأمل في معانيها الحية وعدم اعتيادك على رؤية واحدة، بل ارتيادك كل مرة فيها لمواطن جديدة، تستحق ان نقف عندها، ونكتب أشعارا وقصائد عنها.
حرك مشاعرك، انهض من جدالات واقعك، اركب الموج الصعب، وابحث في بحر النفس عن درر مكنونة، قد تجدها في هواية أو حرفة يدوية أو في رسالة تكتبها، تعبر فيها عن محبتك، لن تعود الرومانسية لواقعنا، حتى نجدها مع انفسنا، ونمارسها، ثم ننشرها بسلوكياتنا فنحرث ونزرع بذورا لها في داخل غيرنا.
كل رومانسية تحتاج لأمسية، تذهب فيها مع نفسك، بخلوة، توقد أول شرارة للمعرفة، وأول رمق للاكتشاف، تتذوق فيه طعم الحياة.
تحضرني ابيات للشاعر المبدع الكبير: عبدالعزيز سعود البابطين، فكلماته خلفت في النفس أثرا عميقا، ووصلت حدودا لامتناهية من الكلمات الشافية، المفعمة بالرومانسية الغائبة:
يا شقيق الروح يا عذب اللمى يا عزيزا حلّ في القلب كريم
حلّ في القلب سنينا يحتسي من حمياه ودادي والنعيم
حلّ عشقا في السويداء وقد صار جزءا من فؤادي بالصميم
يا شقيق الروح لا تبرح دمي فعروقي تشتهي فيها تقيم