وسائل التواصل هذه الايام اصبحت بعيدة عن عالمنا الواقعي، ترتكز حول الأنا التي يحاول صاحبها ان يحظى باهتمام، ولو خلف اسما مستعارا، فأصبحنا نجد المثالية في التغريدات، والتعليقات، وكأننا في زمن ابيض براق، وقد نجد ايضا في المقابل العنجهية والسلبية في الردود، وكأننا نعود للوراء مئات العقود، فالتطور اصبح يقضي على التلقائية شيئا فشيئا، ويحول الذات لسباق مع الأفضل منها، وليس مع من يخرج افضل ما عندها، فتجد الانسان في مواقع التواصل في حاله قلق وإرهاق دوما يقارن نفسه بهذا وذاك، وينظر لها عبر مقتنيات واشياء الآخرين.
غاب تواصل الأب والأم مع الأبناء، وقل تعاطينا مع الأصدقاء، اصبحت الأسرة الواحدة قريبة في المكان، بعيدة في التفكير عدة أميال، لم نعد نجتمع على سفرة الغداء والعشاء، نتحدث عن اخبار بعضنا وآماله ومخاوفه، لأن الجميع منشغل بهاتفه، وذلك بالتأكيد اثر بالسلب على الفرد، وأصبحت الوحدة والعزلة هي الامان بالنسبة له، فاختلت معايير تقبل النفس، وأصبح الفرد منا ينادي عبر مواقع التواصل الحديثة بشعارات وهمية، تفوق طاقته النفسية، وآراء ربما ترتكز على حب الظهور، حتى أصبح يصارع نفس خلف الشاشة طبيعية، تلقائية، واخرى فيما يكتبه في الشاشة من مثالية، وهنا نجد مقاييس الثقة في الذات، اضطربت بين المراهقين، وحتى الناضجين، فلم تعد أحاديث التشجيع هي التي تدعمنا، ولا تبادل تجاربنا هو من يجمعنا ويعلمنا، بل مدى اعجاب الآخرين بنا، ومتابعتهم لنا في مواقع التواصل، هو من يحدد شعبيتنا.
حين تغيب لغة الحوار الجسدي، ستصبح تعابيرنا مجرد ازرار هاتف، وتفاعلنا مليء بالتناقض. لابد أن نضع مدة زمنية محددة لهذه المواقع، لنلتفت إلى الداخل، ونعيد بناء تواصلنا مع الخارج بالصوت والصورة، وبالتلقائية التي تعزز فينا العودة لمسقط رأسنا، وهو تقبل الذات دون شروط، وتقدير أي مجهود. حين تبتاع شيئا ثمينا، وتصوره في مواقع التواصل، وتنشره بين الآخرين، أنت هنا تحظى بالإعجاب، فتشعر بالرضا عن الذات، وهذا للأسف مفهوم الشباب هذه الأيام، اصبح المقياس مختل القياس، فنحن اليوم في عصر المادة فيه تقول، ان لم يكن لك ما تتباهى به، فأنت في قائمة الرجعيين والمتخلفين عن تطور الحياة، وذلك مفهوم يورث في العقول، أن الوصول لأعلى المراتب يبدأ بما ترتديه وتقتنيه، وليس بما تجتهد للوصول إليه، لو لاحظنا أن الزيف والخداع هو الأساس الذي يقوم عليه التفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي، بدءا من الفلاتر التي تخفي عيوب البشرة وتحسن منها، وكأنها تولد الرفض في داخل الانسان لشكله، وتجعله يظهر بشكل يرضي غيره، ليرضى هو عن نفسه. وانتهاء عند الشعارات البراقة التي ننصح فيها الغير، ونحن لا نطبق ما فيها، ولا نعي معانيها.
ما لابد أن نصل إليه اليوم ان التواصل الاجتماعي، وما مر به خلال الأعوام الماضية، خلق نوعا من العزلة في النفس، وجعل ذاتنا تسعى للكمال بشكل مستمر، وذلك أكبر خطأ، لأننا نحمل أنفسنا فوق طاقتها، ونرفضها، ونطمر مواطن قوتها. لابد من وقفة مع النفس تعيد فيها حساباتك، وتحدد أوقات معينة لمثل هذا النوع من التواصل، فجعلها نافذتك للاطلاع على ما يدور في العالم، اصبح يشدك لمواقع مظلمة في حياتك، فلم نعد نحظى برياضة المشي الصباحية، ولا ممارسة هواية القراءة اليومية للكتاب المفضل لدينا، بل نجبر ذاتنا على قراءة اخبار لن تضيف إليها شيئا، بل على العكس، ستجعلها قلقة حيال كل شيء. انا لا أقول ان تلغي هذه المواقع من حياتك، لكن على الأقل رشد استهلاكك، واجعل النسبة الاكبر لواقعك الملموس، لا تجعل حياتك تدور فيها وعليها، لا تنظر للمشاهير فيها على انهم أيقونة للجمال أو النجاح يصعب الوصول إليها، لابد أن تكون لك مقياسك الخاص الخالص من المقارنات، الذي تبنيه بنقاط ضعفك وقوتك، وبناؤك لجسر تواصل مع واقعك، وليس لجدار يعزلك.
Twitter @Dr_ghaziotaibi