في ساعة متأخرة من الليل حيث كان الهدوء يعم منزلنا رأيت الوالد يجلس في غرفته السدو التي تحيط بجدرانها التحف التراثية وكان بجانبه دواة عليها ابريق شاي من اللومي الممزوج بالهيل والزعفران، جلست بجانبه فقال ما هذا الذي بيدك فقلت له إنه كوب من «ملك شيك» فابتسم ورفع حاجبه الأيمن وقال: أصبح في زمانكم الشيك ينقع ويشرب ماؤه، فأسعدني بروح الفكاهة التي يتمتع بها رغم الظروف القاسية التي يشاهدها على الساحة الكويتية من خلافات وتأزيمات وصراعات.
سألته لماذا تتحدث عن زماننا هكذا وكأنه يختلف عن زمانكم، فقال في هدوء تام: اتركي ما بيدك وخذي ما بيدي هذه هي الاستكانة الأصيلة والتي تحتوي على ما تبقى لنا من عادات الماضي وقال لي: تذوقي مزيجها لتشعري بدفء زماني وبدأ حديثه وظهرت على صوته نبرة الاشتياق وقال: في أيام الغوص كان الكفاح والانتماء، كان الحب والإخلاص وقادهم ذلك إلى العطاء والازدهار وكانوا بمنزلة اليد الواحدة «بدوا، حضرا، سنة، شيعة» لا فرق بين هذا وذاك، وكانوا جميعا يحملون شعار الوحدة الوطنية ولم نسمع أبدا عن الفتنة ولم تكن موجودة في هذا الزمن الأصيل ثم قال مبتسما: أقصد زماننا بكل طوائفه ومعدنه الطيب الوفاء والتماسك الحقيقي عند السراء والضراء بفضل القلوب الصافية ثم نظر إلي وقال: هل هذا موجود في زمانكم العجيب الذي ظهرت فيه كل العجائب؟ ترددت في الإجابة بل لم أستطع أن أجيب فقال: لقد تبدل زماني بزمانكم الذي لا يعرف غير الشيك والمصالح والأهواء والسعي بأي طريقة إلى منصب رسمي أو إلى كرسي في المجلس ليتخيل نفسه كالملكة بلقيس في زمانها ولكن هناك اختلاف، بلقيس كانت تعبد الشمس والبعض عندنا يعبد الاستجوابات والتأزيم، بلقيس أسلمت على يد سيدنا سليمان عليه السلام والبعض عندنا يرفض أي سلام.
ثم قام فجأة وتكلم بصوت عال قائلا ماذا حدث بيننا؟ ولماذا أصبحنا غرباء عن بعضنا؟ من هذا القراقوش وأتباعه من الذباب الأزرق الذي يلوث الود بيننا، ومن الذي تخيل نفسه عنترة ليدس روح الفتنة بين الطوائف؟ وبدأت أنظر إليه مستغربة أن والدي لم يتحدث هكذا من قبل ولم أره في هذه الحالة من قبل، ثم قلت له اهدأ يا والدي. فرد قائلا: وكيف أهدأ وهذا يحدث بالكويت لأول مرة في تاريخها في زمنكم هذا زمن العجائب.
لماذا أصبحت لغة الحوار في السياسة مزيجا من المتاهات والتفاهات؟ وماذا يريدون من هذا؟ لماذا نضيع وقتنا في الصراعات والتأزيمات السياسية؟ رغم يقينهم الكبير بأن النتائج في النهاية تعظم السلبيات والوصول الى نقطة مظلمة ويبدو أننا عشقنا التأزيم.
لقد استغلوا طيبة ورقة قلب شيوخنا معتقدين أنه ضعف وأصبح البعض منهم يشير بأصبعه وكأنه هتلر في زمانه، حاملين سلاح الحقد والكراهية ليقتلوا ثقة المواطنين بشيوخنا الكرام ولكن أبدا لن يستطيعوا نزع الحب والوفاء لهم من قلوبنا ومن أسس وحدتنا، ومما تعلمناه من أسرتنا ممن عاش الألم ورجع من هدام ديرتنا أقصد «صدام» انهم أهل الصباح أهل الوفاء والإخلاص هم أهل الصباح الكرام بقيادة صاحب السمو الأمير الحكيم الشيخ صباح الأحمد وعقال الصباح يجب أن نضعه تاجا للفخر ونحارب ونعادي ونهاجم كل من يتعدى حدوده على آل الصباح ثم صمت قليلا وأخذ رشفة من مزيج اللومي، ثم قال: أنا هنا أجلس وليس بيدي أي شيء غير الدعاء اللهم اجعل ديرتنا كما كانت من قبل، واحفظ أميرها وولي عهدها من كل مكروه، واجعل آل الصباح في قمة الكويت فنحن منهم وهم منا.
ثم صمت ثانية وقال ما رأيك يا بنيتي في زمانكم، فقالت حقا يا والدي بئس الزمان ولابد أن نتصدى لهذا الذباب الأزرق القاتل لوحدتنا والساعي الى فرقتنا.
فالوطن الذي لا نستطيع أن نحميه لا نستحق العيش فيه، فرد والدي قائلا: حقا يابنيتي يجب أن نحمي ونقتل كلمة أنت بدو، أنت حضر، أنت سني، أنت شيعي، وأن يكون الرد «أنا كويتي وكلهم أهلي وناسي».
ونهاية قال لي هذا زمانكم شيك ملغى ونحن الرصيد الذي بيدكم، فهل تتركونه؟!
حروف حائرة:
راح وقتي زمانه
وأنا سلمت الأمانة
واحذر هذي علامة القيامة
أصبحنا في زمن الأخ يقتل أخاه
والابن يعصي أباه
والمجلس لا مبالاة
وفي النهاية نحمد الله على عطاياه
[email protected]