منذ نحو 4 سنوات بدأت الثورات العربية أو الربيع العربي أو ثورات الربيع العربي التي كانت في البداية حركات احتجاجية سلمية انطلقت في بعض البلدان العربية خلال أواخر عام 2010م ومطلع 2011م متأثرة بثورة الأحرار التونسية، إذ نجحت هذه الثورات في الإطاحة بأربعة أنظمة عربية حاكمة.
فبعد الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي ونتج عنها سقوط العديد من القتلى والجرحى والشيء عينه يقال في الثورة المصرية التي شهدتها مصر في 25 يناير عام 2011م إذ نجحت في إسقاط الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في حين قامت الثورة الليبية التي سرعان ما تحولت إلى ثورة مسلحة وأدت إلى مقتل العقيد معمر القذافي في 20 أكتوبر 2011م.
وقد أجبرت الثورة اليمنية الرئيس علي عبدالله صالح على التنحي عن السلطة في أواخر شهر فبراير عام 2012م التزاما ببنود المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية التي ما زالت قائمة بسبب الخلافات الشخصية وتصفية الحسابات التي تطغى فيها على المصالح الوطنية، ناهيك عن الصراع المذهبي والتركيبة الاجتماعية القبلية متقلبة الولاءات.
وليس من الصعب على المرء أن يلاحظ أن الدول العربية التي اجتاحتها الثورات العربية بقوة وأسقطت حكامها أو الثورات التي ما زالت قائمة كما في سورية والعراق أو النظام الطائفي الذي يحكم في لبنان منذ عقود هي نفسها الدول التي كان ومازال حكامها يستمدون شرعيتهم من التعبئة الوهمية ضد الامبريالية والصهيونية أو المحاصصة الطائفية أو من شرعية الانقلابات العسكرية.
وإن انخراط بعض هذه الدول ما قبل الربيع العربي في بناء التوازن الاستراتيجي الوهمي على المستويين العربي والإقليمي على حساب تنمية شعوبهم واعتمادهم على الخطابات المصطنعة وتطبيق سياسة فرق تسد الأمر والذي أدى إلى عزلتهم عن العالم المتحضر وأدخلهم في حالة من الفوضى والعنف وانهيار الإرادة السياسية بل سقوطهم في أول اختبار حقيقي يتعرضون إليه.
وللموروث التاريخي في دول الاعتدال العربي دور مهم في درء المخاطر الناجمة عن ارتدادات ثورات الربيع العربي إذ ساعدت شرعية الحكم في دول الاعتدال خروج مجتمعاتهم من حالة الفوضى العامة والتطرف والعنف الذي كان متوقع حدوثه إلى درجة إرساء قواعد الأمن والاستقرار.
ولقد عرفت الدول العربية المعتدلة وبشكل تدريجي ومتفاوت كيف تتخذ من الحاكمية الرشيدة (القائمة على الرحمة والتخفيف) الطريقة المثلى لتحقيق التوافق بين المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولهم من خلال أشكال الضبط المختلفة لحل المشكلات العالقة مع مراعاة خصوصية كل دولة في محور الاعتدال.
لذا تعد الحاكمية الرشيدة من عوامل قوة دول الاعتدال العربي التي أدركت منذ زمن بعيد أن عصر النزاعات والتطرف قد ولى لمصلحة عصر يسوده التسامح والرحمة والوسطية والعدالة والبناء العمودي والأفقي من خلال تبني سياسات وخطط حديثة تتوافق مع تطورات العصر تمتد من إدارة المنشآت الاقتصادية إلى الحكم المحلي فالتخطيط الإقليمي والدولي.
وتترسخ حاكمية دول الاعتدال الرشيدة من خلال التأكيد على الثوابت الوطنية وتحديد المرجعيات والإيمان بفصل السلطات وتداولها والنهوض بالتعليم ومخرجاته وتوعية المجتمعات على حب الأوطان ونبذ العنف والتطرف والتشدد كل ذلك يعد أكبر ضربة توجه إلى عناصر التفكير السلبي.
وإن الحداثة وسيادة القانون في دول الاعتدال هي من جوهر علامات الحاكمية الرشيدة التي تعمل في سبيل السلام وفي مقدمتها قيم العدالة واحترام التعهدات العربية والإقليمية والدولية التي تدعم وتعزز الثقة بين مكونات المجتمع والنظام الرسمي وتؤمن بمد جسور التعاون مع محبي السلام في العالم.
ومع هذا كله، فإن من أولويات حاكمية دول الاعتدال الرشيدة الحفاظ على الوحدة الوطنية وتعزيزها لتبقى حية من خلال إشراك فئات المجتمع في دعائم الوحدة نفسها والتأكيد على المشاركة الحقيقية لعناصر التطور الإيجابي لتحقيق التقدم والازدهار والوقوف في وجه تمدد عنصر الشر.
وإن متانة دساتير دول الاعتدال العربي ومراحل التطور التي مرت بها وهي تعديلات دستورية مستمرة ومتجددة، إذ تعد الإنجاز والسلاح الحقيقي لهذه الدول من خلال محاولات تصاعدية في نظم الإصلاح السياسي والاجتماعي والذي لا يمكن من دونه الحديث عن حاكمية دول الاعتدال الرشيدة.
ومن المؤكد أن هناك ثغرة ضعيفة في تطبيق العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مؤسسات دول الاعتدال العربي يجب معالجتها مقابل انهيار كلي في بنية الدول العربية التي لا تستند إلى الموروث التاريخي وشرعية الحاكمية الرشيدة.