مرت مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية دون أن نرى ذلك الزخم الإعلامي، خاصة في وسائل الاعلام «العربية» التي يفترض أن تكون الأكثر حرصا على هذه المناسبة التي توافق 18 ديسمبر من كل عام، وهو يوم إدراج اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة، وذلك على عكس ما نراه من احتفاء واهتمام تلك الوسائل بلغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية. رغم أن العربية أكثر لغات المجموعة السامية متحدثين، وإحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم، حيث يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة.
لم يهتم العرب بلغتهم كما فعلت شعوب أخرى صونا لهويتها عندما أصرت هذه الشعوب على التحدث بلغتها فخرا بثقافتهم، ففي فرنسا مثلا هناك ما يسمى بقانون توبون، يلزم جميع الإعلانات والملصقات الترويجية بأن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية، وبواسطة ذلك القانون الذي صدر عام 1994 منعت فرنسا استعمال اللغات الأجنبية خصوصا الانجليزية في المعاملات التجارية وإعلاناتها، بل ان ذلك القانون يلزم باستخدام الفرنسية في المطبوعات الحكومية الرسمية، والعقود التجارية وفي جميع أماكن العمل، وجميع المدارس التي تمولها الحكومة.
ورغم أن اللاتينية هي أم اللغات الأوروبية الموجودة حاليا ورغم أن دول أوروبا يجمعها كيان واحد هو الاتحاد الأوروبي، ينتقل فيه المواطن بحرية بين دوله فإنك تجد أن كل دولة تعتز بلغتها الوطنية وتهتم بها وتجعل لها أولوية على المستويين الرسمي والشعبي.
وهذا أستاذ جامعي مصري دعي إلى إحدى جامعات ألمانيا ليلقي بحثا فاز من خلاله بجائزة عالمية، فقام بترجمته إلى الانجليزية ليلقيه بها بحكم أنها لغة عالمية، إلا انه فوجئ عندما بدأ إلقاء بحثه وسط حشد من كبار الاساتذة الألمان بأن مسؤولي الجامعة يطلبون منه التحدث وعرض بحثه بالألمانية، وإلا فليؤجل الأمر لحين ترجمته للألمانية وعرضه في يوم آخر. والوضع نفسه في دول مثل اليابان وكوريا والصين، تعتز بثقافتها ولغتها وانتمائها.
وعليه يمكن أن نتساءل: ما بال لغتنا تنتهك ويتم التنازل عنها بطرق متعددة ومختلفة؟! يكفي جولة واحدة في أحد شوارع أي مدينة عربية لترى حالة مفزعة من«التغريب» وإطلاق الأسماء الأجنبية على «لافتات» المحال والمطاعم والفنادق والمقاهي ودكاكين البقالة وغيرها.
أسماء المنتجات التجارية والبرامج، قوائم الوجبات وأسعارها في المطاعم والفنادق، الحوارات والتداولات على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل أغلبها يستعمل الانجليزية، اللقاءات والندوات على الفضائيات التي تجمع مفكرين ومثقفين عربا تجد أكثر تعابيرهم مع الأسف بالإنجليزية، السير الذاتية التي يقدمها طالبو الوظائف سواء في الجهات الرسمية أو شركات القطاع الخاص يسعى مقدموها إلى أن تكون مكتوبة بالإنجليزية، الحرص الشديد على تعليم أبنائنا في مدارس أجنبية، بل إن بعضنا صار يتبادل التهاني في مناسباتنا الاجتماعية بالإنجليزية من خلال رسائل المحمول وغيرها!
إن تعلم لغة الآخرين والاستفادة منها مطلوب وليس فيه جدال لأن معرفة الثقافات الأخرى وفهمها أمر في غاية الأهمية، لكن بشرط عدم تهميش اللغة الأصلية، فيجب بموازاة تعلم اللغات الأخرى أن ترسخ ثقافتك الوطنية، وتحمي لغتك من التآكل والتشويه وأن تكون لذلك اولوية.
باختصار: أمام هذا التيار الجارف في خضم حركة العولمة التي تملأ جميع مناحي الحياة تتعرض لغتنا العربية لحرب شرسة بهدف القضاء على انتمائنا كعرب وإضاعة هويتنا، نحن نمر بمرحلة عصيبة ولا بد من أن تتضافر الجهود لنحمي هويتنا ونعزز عروبتنا.
أخيرا: اللغة بالنسبة لأي أمة، هي وعاء فكرها وحضارتها. فإذا ضاع ذلك الوعاء أو طرأ عليه دخيل يعكر صفوه ضاع فكر وحضارة وهوية تلك الأمة.. نحن في حاجة لإعادة النظر في التمكين للغتنا حتى نرقى بأمتنا لكي لا تسقط في الهاوية.
[email protected]