من السنن الطبيعية للحياة البشرية أن يقودها حراكها التدافعي والتكاملي إلى مستويات صاعدة من النضج نحو تحقيق طموحاتها في العدالة والمساواة واستقرار الأمن الاجتماعي للنوع البشري.
فبنظرة فاحصة ومتتبعة للتاريخ الإنساني، نستجلي هذه الحقيقة على مستوى مناصرة أنبياء ورسل الرسالات السماوية، أو على المستوى الإنساني الصرف، ولا ينفي هذه الحقيقة استثمار البعض من الأفراد والجماعات والدول لعناوين المبادئ السماوية والإنسانية لمصالحهم الفردية والفئوية الضيقة، كما لا يتعارض معها بعض أوجه القصور التشريعي في القوانين التي بطبيعتها تعبر عن مرحلة من مراحل الوعي الحقوقي في سير الطبيعة الإنسانية التواقة والمكافحة من أجل الإنصاف والعدالة.
من غرائب التقنين التي تمثل حالة من أحوال القصور التشريعي الوضعي إعفاء المخالف والجانح والجاني وإسقاط عقوبة كل منهم بالتقادم الذي يحدد بثلاث سنوات للمخالفة وخمس سنوات للجنحة وعشر سنوات للجناية. وحيث إن القوانين يفترض فيها أن تصون حقوق الأفراد والحقوق العامة للمجتمع، ما هي المصالح التي يحققها قانون الإسقاط بالتقادم عن متهمين نجحوا في الاستخفاء عن الجهات التنفيذية للأحكام؟
هل التقادم يعيد للمظلومين حقوقهم سواء كان المظلومون أفرادا أو المظلوم المنتهك هو المجتمع بأكمله؟!.. واقع الحال وحكم العقل يقضيان بالإعفاء وإسقاط العقوبة في حال العفو من صاحب الحق المنتهك وإعادة الحقوق للطرف المظلوم، وبغير ذلك لا يمكن تحقيق الأمن الاجتماعي، بل إن شرعة التقادم ستستثمرها النفوس الضعيفة للتمادي في انتهاك حقوق الآخرين، ولن يتمكن القضاء بها من أن يحقق الملاذ الآمن لاستحصال الحقوق، وكشاهد على هذه المفارقة ما واجهناه في قضايا أصحاب الجناسي المزورة التي لو عرضت على القضاء لن يستطيع أن يدلي بحكم يحفظ به حقوق المجتمع من آثار أضخم وأخطر، تزوير يهدد أمنه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو تزوير الجنسية المؤثر بحجمه الكبير على حقيقة التركيبة السكانية وتبعاتها المكلفة والخطرة على السلم الأهلي والاجتماعي.
قانون الإعفاء والإسقاط ليس فقط يشجع على الاحتيال والمخالفة للقوانين التي تحفظ مصالح الأفراد والمجتمع، إنما هو في قصوره المضاعف يكبل القضاء عن أداء دوره في إرساء العدالة والانتصاف للمظلومين، بل يجعل من القضاة وسيلة لتكريس الظلم والاحتيال على القانون وآليات تنفيذه.
أليست كل هذه المفارقات القانونية والواقعية والعقلية جديرة بالمراجعة العميقة والتصويب؟
[email protected]