عندما يبدأ رمضان تتبادر إلى أذهاننا فورا صورة الهلال معلنا عن بدايته، وصوت الآذان والمدافع إيذانا ببداية الإفطار، ثم منظر العائلة مجتمعة حول مائدة الإفطار والبسمة تعلو محياهم فرحين بإفطارهم مغتبطين باجتماعهم، والمساجد ممتلئة بكل راكع وساجد، ثم تقام صلاة التراويح والتهجد في الليل.
هذه هي الصورة المشرقة المثالية التي نتخيلها عن رمضان ولكن الحقيقة المؤلمة هي التي تختفي خلف هذه الصورة عندما تتأمل في قلبك وتجلس وحيدا منعزلا في زاوية وتخاطب نفسك قائلا: يا ترى هل هذا هو رمضان الذي أبحث عنه؟ مجرد صور وذكريات وعادات وتقاليد وإمساك وإفطار وصلاة وقيام، ثم يمضي الأمر ويمر مر السحاب أم أن الأمر يتعدى ذلك؟ لعمري ما هي إلا سويعات قليلة مع نفسك حتى ينقشع الضباب عنك وتنجلي الحقيقة حولك وتجد أن السر في رمضان يختلف عما تخيلته آنفا، إن رمضان أيها السادة هدفه يتمحور حول شيء واحد فقط هو نفسك التي تحملها بين جنبيك، إنه يستهدف أن تستبدل، قلبا غير قلبك وروحا غير روحك، كما انه تغيير للحبال البالية والمنقطعة بأخرى جديدة موصلة لله تعالى، إنه يريد من الغني المستطيع أن يتصدق على العاجز الفقير، ولا يكون ذلك إلا من خلال لسعه بسياط الجوع لعله يحس أو يعتبر، ويريد من قاطع الأرحام مودة واتصالا، ففيهما سعادة وانسجام وطول في الأعمار، ومن العصاة الفجار دعاء واسترحاما، فيكون له الجنة والغفران، ويريد من الأمة جمعاء توحدا ومحبة وإخاء ليرزقهم الله من فوق السماء.
إن فلسفة رمضان تتمثل باختصار في كلمة قالها الشيخ مصطفي السباعي - رحمه الله «إنه رجولة مستعلنة وإرادة مستعلية».. فهي تربية ربانية حازمة على ضبط الشهوة الآثمة، وهي اختبار وتمحيص ليرى الطيب من الخبيث، وهي إرادة وقوة لمن أراد لنفسه العزم والفتوة، واعلم أيها الحبيب أن الله اختص أجر الصيام لنفسه دون العبادات، فقد جاء في الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» والسر في ذلك أن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه ولأنه ليس للصائم ونفسه حظ فيه كما أورد ذلك الإمام الرباني «محيي الدين النووي». فهذه فرصة عظيمة لمن أراد بداية جديدة مع ربه ونفسه والناس وما أجمل قول الشاعر:
اذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فلا تدري السكون متى يكون