- هل تأخر «العدالة والتنمية» عن هز جذع شجرة «الفكر الخريفي» لتتساقط أوراقه أم مازال في الإمكان اجتثاثه؟
سنوقف هذا الانقلاب، فليأت الجميع الآن إلى «شارع الوطن».
نداء مقتضب أطلقه مواطن عبر تسجيل مرئي مدته ثوان، ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يحمل سوى جمل قصيرة جدا وواضحة، كان ذلك بعد مكالمة الرئيس رجب طيب أردوغان التي دعا فيها الشعب المؤمن بالديموقراطية، الى الخروج الى الميادين لحمايتها، وكذلك دعا رئيس الوزراء والزعماء السياسيين والبرلمانيين لتحمل مسؤولياتهم فاستجابوا جميعا، فخرت بعدها قوى «السحرة».
لماذا أذكر هذا الفيديو بالذات دون غيره من الفيديوهات وهي كثيرة؟!
لأن صاحبه هو «بولند يلدريم»، اسم علم يعرفه كل تركي وعربي وأعجمي أيضا، رئيس جمعية «إي ها ها ـ ihh» التركية الإغاثية التي امتدت أيادي العون فيها إلى الكرة الأرضية، وهي من أهم مؤسسات المجتمع المدني، وتمتلك سفينة «مافي مرمرة» التي قتل فيها الكيان الصهيوني في 2010 ناشطين أتراك في رحلتها الشهيرة لرفع الحصار عن غزة تحديا، وبدأ على أثرها قطع العلاقات بين تركيا والصهاينة.
أما شارع «شارع الوطن» الذي دعا «بولند» للتجمع فيه، فهو أحد أكبر شوارع اسطنبول وأشدها حساسية، فالمبنى الرئيسي لمديرية أمن المدينة يقع فيه، وهو المبنى الحكومي الأمني الأهم ضمن أهداف أي محاولة تخريبية للسيطرة على مراكز الأمن التابعة للمنطقة لشلها.
أسفلت «شارع الوطن» أحد أول الشهود على وقع أقدام تسلقت دبابة، لتوقف جنازيرها من تدنيس أرضه، وتدفع جنديا مثل لأوامر المنقلبين على الدولة للاستلام، قبل مسافة تبعد أقل من مائة متر بينها وبين المركز الأمني، ومع أول من استسلم، كانت بداية سقوط أوراق الخريف.
خريف الفكر القابع في سراديب فاق عمرها التسعين عاما وما زال ينازع للبقاء عبر جهاز ينتظر من يسحب قابسه من الحائط، خريف الفكر المدعي أنه جاء للحفاظ على الحريات بينما هو ضدها ومعاد لحق ممارسة الدين الإسلامي في بلد مسلموه أكثر من 90% من تعداده، خريف فكر يناصر خروج معدات الثكنات إلى الشوارع لطمس الحياة المدنية وإعلاء الحياة العسكرية، في الوقت الذي أكل وشرب الزمن عليه، بل وقضى حاجته!
الخريف الذي بات ورقه كالحا، وآن اجتثاثه من الجذور.
إنه الخريف الذي تأخر الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، كثيرا عن هز جذع شجرته ليتساقط ما تمسك به من ورق حتى الرمق الأخير رغم انقطاع مدده وموت جذوره.
مكالمة الرئيس رجب طيب أردوغان قال فيها: أنا هنا وفي طريقي إليكم: «كلمات ليست كالكلمات»، أعطت الشعب الشعور بالأمان أولا، ثم دعته للتصرف، وبدوره قلب الانقلاب على عقبه بكل ما يملك من وسائل، فوصلت رسالة للرئيس عبر «القوة الناعمة»: لقد تم ما أمرت سيدي.
ومن أطياف الشعب، أولئك الذين يمتلكون أدوات هذه القوة: مؤسسات المجتمع المدني، وأضخمها جمعية «إي ها ها» كما ينطقها الأتراك.
نادى رئيسها الناس لقناعته بأنهم رأس حربة وفيصل عندما يكون الوطن في خطر، ولولا أن شكلوا الحاجز بين الجيش والشرطة لتحولت الشوارع إلى بحر من الدم، تخيل القوات الخاصة في مواجهة الجيش؟ لتقاتلا، وكل يملك السلاح حتى يبيد بعضهم البعض.
ومثلما أطاع الشعب رئيسا انتخبه وحرر المطار الرئيسي في اسطنبول ورابط في الميادين العامة وأنهى احتلال القناة التركية الحكومية، كذلك استجابت الأفواج لنداء «بولند» في الحال، وبدأ التوافد إلى «شارع الوطن»، فالمواطن التركي لم يكتف بعدم دعم الانقلاب العسكري، بل لم يقف مكتوف الأيدي على الحياد.
كل يوم تتكشف حقائق عن وثائق الانقلابيين أدانوا فيها أنفسهم وكتبوا بأيديهم استحقاقهم للعقاب، خطط تدمير للمراكز الحيوية في البلاد بآلاف الصواريخ، اغتيالات لقوائم من السياسيين والاقتصاديين وكل معارض لهم له ثقل في الدولة، نوايا شهد عليها الحبر والورق لتقويض مؤسسات الوطن، ولكن الله سلم.
نعم، لقد سبق الانقلابيون إلى المواقع التقليدية للسيطرة عليها لإنجاح فعلهم، ونعم، كان حراك «القوة الناعمة» لاحقا، ولكن كما يقال وبتصرف: النصر لمن صدق لا من سبق.
محاولة انقلاب كان من شأنها أن تعيد تركيا مائة عام أو أكثر إلى الوراء، إلى كل ما نعلمه من كوارث من تجارب سابقة، وما لا نعلمه منها نتاج تطور نزعات الشر في النفس البشرية مدفوعة بالطمع والجشع وحب السلطة والنفوذ، تحولت إلى مجرد كابوس رآه شعب تركيا في سنة بين النوم واليقظة من التاسعة مساء الخامس عشر من يوليو وحتى ساعات الصباح الأولى من اليوم الذي تلاه، وأفاقوا على أصوات المآذن وعبرات الفرح وعبارات الحمد والشكر بأنها ليست إلا: ليلة حالكة فحسب، بينما كانت منعطفا في تاريخ الرؤوس المدبرة وسيرسلها الشعب إلى مكان أشد حلكة.
وكل ذلك بدأ من نداء إلى «شارع الوطن».