تعتبـر الســرية المصرفية من أهم الركائز والدعائم التي يقوم عليها العمل المصرفي في العالم وبشكل خاص في لبنان وبصورة مستقبلية في الكويت اذا ارتأت أن تكون مركزا تجاريا مهما في الخليج والعالم، حيث ان السرية المصرفية تشكل صمام الأمان الذي يبث الثقة والطمأنينة لأصحاب رؤوس الأموال بشأن سرية أعمالهم المصرفية وجميع المعلومات ذات الصلة بثرواتهم فيعد ذلك حافزا قانونيا مناسبا وبيئة تشريعية ملائمة للاستثمار وتشجيع الادخارات الوطنية حيث انها تجذب رؤوس الأموال والرساميل والاستثمارات الأجنبية وخاصة أن القوانين والتشريعات في الكويت تساعد في هذا المضمار.
ومع بروز الأزمة العالمية وتوجيه السهام الى المصارف وتسميتها بشكل حصري بالأزمة المالية العالمية أثار ذلك أكثر من نقطة استفهام حول مشروعية السرية المصرفية واستغلالها كأداة للتستر على ضعف الرقابة وغياب الشفافية وتحويل الأموال وتبييضها وإخفائها وعدم دفع الضرائب والافلاسات الاحتيالية وتعطيل الصلح والمقاصات كل ذلك شوه السرية المصرفية، فعلى المستوى المحلي أثارت أزمة دبي بلبلة في أوساط الساحة الاقتصادية وذلك عبر مطالبة المستثمرين البنوك بالإفصاح عن حجم انكشافاتهم الصحيحة من منطلق الحق الذي تفرضه الشفافية المعترف بها كمبدأ من المبادئ الأساسية لحوكمة البنوك.
وفي المحاضرة الأخيرة التي ألقيتها في جامعة بربينيون في فرنسا اكدت أن عصر السرية المصرفية في العالم قد انتهى، وأنه لابد من اتخاذ الإجراءات القانونية القمعية ضد المصارف والبنوك غير المتعاونة والتي أدت في الفترة السابقة وخاصة في الربع الثالث من 2009 الى تفاقم في الأزمة الاقتصادية خاصة رجال الأعمال الذين اتخذوا من هذا المضمار وسيلة للتهرب من الضرائب الواجبة.
فإذا استثنينا في العالم العربي لبنان كدولة آمنة من الناحية المصرفية ومحافظة على مبدأ السرية، تبقى جميع الدول على مقربة اما الى التجميد أو الى الخرق.وهذا ما انعكس من الناحية السلبية على الأزمة العالمية. ذلك أن المصرف المركزي في لبنان وعلى رأسه الحاكم الأول رياض سلامة عرض سبل التعاون في العالم العربي من خلال تبني معايير اقتصادية وتنموية لتقديم المساعدات فيما يتصل بالقضايا الضريبية.
ان الدراسة المتأنية لانكشاف السرية المصرفية والآثار المترتبة على هذا التوجه أدى الى بروز ظواهر تعكس مدى التخبط التي تعاني منها المصارف.
فهي من ناحية تريد الحفاظ على هذا الارث الذي أثبت جدواه لجهة استقطاب رؤوس الأموال ومن ناحية أخرى فإن التسريبات التي تلتحف بعباءة الأحكام والتحقيقات أدت الى بروز ظاهرة التهرب الضريبي.
كما ان البنوك اللبنانية ملزمة بموجب القانون بتوفير درجة عالية من السرية في المعاملات المالية بينها وبين جميع عملائها، وقد خطت المصارف الكويتية بهذا الاتجاه ولكن تبقى الثغرات قائمة، ومع الأزمة انكشفت.
وأي مصرفي يكشف عن تفاصيل خاصة بشؤون أي من عملائه لطرف ثالث غير مفوض فهو بذلك يرتكب جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات. ومن هنا يطرح السؤال التالي:
هل هناك التزام في هذا الموضوع ولماذا تأثرت المصارف بالأزمة العالمية؟
ان السرية المصرفية في العالم العربي بين البنك والعميل لم تكن قط مطلقة بنسبة 100 %، والتشريعات والقوانين اللبنانية أوضحت على نحو لا لبس فيه ما تشتمله بالحماية وما لا يقع ضمن نطاق حمايته، فهو على سبيل المثال لا يشكل أي عقبة على الإطلاق أمام قانون العقوبات.
كما ان التشريعات اللبنانية فيما يتعلق بموضوع السرية المصرفية وأثرها على الأزمة الاقتصادية العالمية ميزت بين التهرب الضريبي والاحتيال الضريبي. فهي على سبيل المثال تعتبر من يقدم تقريرا ضريبيا غير كامل متهربا من الضرائب، ويتعامل معه من خلال الإجراءات الإدارية، بما في ذلك الغرامات المشددة إذا لزم الأمر.
وعلى هذا فإن التهرب الضريبي، رغم مزاعم بعض تقارير الإعلام الأجنبي، لا يعد ممارسة قانونية في لبنان، كل ما في الأمر أنه لا يشكل جريمة جنائية وكل من يتبين أنه يتهرب بشكل غير قانوني من التزاماته الضريبية في لبنان فهو يعرض نفسه لغرامات مالية باهظة.
اما الاحتيال الضريبي فهو يشتمل على تزوير المستندات، وعلى هذا فهو يشكل جريمة جنائية في نظر القانونين اللبناني والكويتي.
وعلى هذا فإن خصوصية العملاء غير المشتبه بهم ستظل خاضعة للحماية بموجب مبدأ السرية، فليس من المتصور أبدا أن يسمح مواطنو البلدان الديموقراطية لحكوماتهم باكتساب الحق التلقائي في الدخول عنوة إلى بيوتهم وتفتيشها استنادا إلى احتمال غير مؤكد بالعثور على مسروقات، فما الذي يجعلنا نتصور إذن أن الدولة قد يكون لها الحق التلقائي في الاطلاع عنوة على الحسابات المصرفية استنادا إلى احتمال ضعيف بالعثور على قلة من المتهربين من الضرائب أو المجرمين؟
وحين يلتزم لبنان بأمر ما فإنه يقوم به بدقة وكفاءة وفي الوقت المناسب، وكان تنفيذ الاتفاقيات الدولية بشأن فرض الضرائب على المدخرات مثالا جيدا على هذا. وأنا على ثقة من إظهار لبنان القدر نفسه من الالتزام بمعيار الأنظمة الدولية الذي سيتم دمجه في اتفاقيات الازدواج الضريبي الثنائية في المستقبل. وبعد هذا الالتزام فإن الانتقادات غير اللائقة للبنان ونظامها التشريعي فيما يخص السرية المصرفية والتسريبات الأخيرة التي تمت بفعل عوامل خارجة عن إرادة هذا البلد الصغير المنهك، وكذلك العديد من التهديدات بوضع لبنان على «القائمة السوداء»، لابد أن تتوقف.
[email protected]