تعاني الأسواق الاقتصادية في العالم من تداعيات منطقية وواقعية هي في حقيقتها نتيجة لأزمة اقتصادية مالية عالمية من العيار الثقيل تنتشر وتتوسع لتضرب بقوة واقعية جميع القطاعات بشكل لم تستثن أي من دول العالم وخاصة الدول الأوروبية والأميركية وتستحق بجدارة أن توصف بكونها كارثة القرن الجديد، كما أطلق عليها الباحثون والمحللون الاقتصاديون.
وقد شكلت هذه الظاهرة الغريبة بحد ذاتها حدثا إعلاميا مرئيا ومسموعا بلا منازع وإن نتائج هذه الأزمة لم تكن محسوبة، وواهم من يعتقد أن آثارها انتهت فقد ضاعت مقدرات عدد كبير من الدول بل ان عددا آخر لايزال يفتش عن اقتصادات بات ترميمها أشبه بترميم ابريق من الزجاج.
وما يثير فضولي كمستشار قانوني ومحلل اقتصادي ذلك التكتم الإعلامي الشديد من قبل القوى العالمية المسيطرة على معظم وسائل الإعلام العالمية والتي تعتبر مكموشة بالمنطق العام ومسيطرا عليها بشكل خاص وفي الحدود الدنيوية والتي توهم العالم بأن اقتصادات العالم قد تعافت وأن الرخاء قادم وأن الأزمة الاقتصادية ليست سوى منعطف بسيط لتشكل ثورة اقتصادية يتجه من خلالها العالم الى الرخاء وانعدام البطالة وارتفاع مستوى الدخل وانعدام الفقر.
كلام ليس سوى تركيب من أحرف فالبطالة في ارتفاع مستمر، والشركات تتزاحم على الصلح الواقي من الإفلاس، والبنوك الصغرى تقف بالصف على أبواب الاتحادات وبطبيعة الحال فإن هذا التكتم لم يكن عفويا بل كان مبيتا ومع سبق الإصرار سعيا لتحقيق هدف محدد «أصبح يعرفه القريب والبعيد».
والأمر لم يكن بالجديد فقد سبق أن تكتمت تلك المؤسسات على ما حصل من ضربات تعد قاصمة للاقتصاد الأميركي وبالتحديد بعد عام 2000 وعلى الرغم من ذلك نجد وسائل الإعلام الغربية تدافع وتضع الحجج والبراهين وتذكر بمآثر الماضي والغرض واضح وجلي والمتمثل في اكتساب الوقت والتفتيش عن الحلول براحة بال دون أي ضغوطات والتفتيش عن كنوز مهجورة لا حراس عليها وثروات يمكن معها مقاسمة الشريك لمجرد دخول الحبيب.
فإذا قارنا الوضع بما هو عليه بين تلك الدول وما حصل بالفقاعة التي انفجرت في دبي وما أصاب اقتصادها من وعكة طفيفة ندرك أن الاعلام سلاح ذو حدين. خطير الى درجة الإيهام بما هو عكس الصواب.
ففي الفترة من 11 سبتمبر 2001 وحتى 11 سبتمبر 2002 انهارت وأفلست مجموعة كبيرة من الشركات الأميركية، قدرت بـ 60 ألف شركة وقد تم تسريح مالا يقل عن 140 ألف عامل أميركي في تلك الفترة وفقا لتقرير صحيفة «وول ستريت جورنال» وعلى الرغم من ذلك وبالعودة الى الصفحات الاقتصادية في تلك الفترة وفي قراءة متأنية لجميع وسائل الإعلام المرئية نرى أنه تم التطرق الى الموضوع من مقاربة سطحية وكأن الأمر عرضي أو أن الأمور تحت السيطرة وهنالك من يتحكم في مفاتيح اللعب كذلك التعتيم والتكتم عن حالات الإفلاس على المستوى الشخصي والتي سجلت في نفس الفترة رقما قياسيا للإفلاس بلغ 391 ألف حالة إفلاس وبخسائر تصل إلى 8.6 تريليونات دولار وذلك وفقا لمعطيات لاتحاد أسواق المال الدولي.. وهنا نبين بعض ما جرى من كوارث حلت بالاقتصاد الأميركي بعد عام 2000 م ولغاية الإعلان الرسمي عن الأزمة المالية العالمية المتفشية.
وفي 2001 سجلت شركة «يو. أس. أير ويز» طلبا لإشهار الإفلاس علما أن أصولها تقدر بنحو 7.81 مليارات دولار مقابل ديون بلغت قيمتها 7.83 مليارات دولار وهي سابع شركة طيران أميركية، كما انها تشغل المكانة رقم 14 في قائمة كبرى شركات الطيران العالمية وتخدم أكثر من 200 موقع داخل الولايات المتحدة وتنظم رحلات جوية للمكسيك وكندا ودول منطقة الكاريبي واعترف مسؤول الشركة بان خسائرها بلغت مليارا ونصف المليار دولار في 2001.
وفي يناير من 2002 أعلن عن إفلاس الشركة العملاقة الأميركية المتحكمة في الطاقة «إنرون والتي تربعت على عرشها في ولاية تكساس لتدير دفة النفط وما يتبع النفط من طاقة كهربائية هي عصب الصناعة الأميركية بل الاقتصاد الأميركي بشكل عام.
كما شهد عام 2002 توقف الكثير من شركات الطيران عن العمل، فقد توقفت شركة طيران أميركية هي «ميد. واي. إيرلاينز»، عن العمل وسرحت جميع موظفيها البالغ عددهم ألفا وسبعمائة موظف وقال مسؤولو شركة دلتا إيرلاينز ثالث أكبر شركة طيران في العالم إنه من المحتمل أن تستمر الشركات في تسريح أعداد من الموظفين.
وعلى الرغم من هذه الحوادث الجسام وغيرها حاولت الصحف العالمية إظهار أن الموضوع لا يتعدى مشاكل اقتصادية اعتيادية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق ولم يكن بإمكان أصحاب القرار التكتم على ما يجري من انهيار اقتصادي إلى ما لا نهاية، لأن المصاب جلل والعالم يتجه الى الهاوية وكأن سيارة من دون سائق تتجه الى الهلاك والكل يقول ما سبب الأزمة؟!
وانتقلت العدوى الى فرنسا والشركات المفلسة خلال 12 شهرا من إعلان الأزمة المالية العالمية 53640 شركة وهو أعلى مستوى في عشرة أعوام وأسرع وتيرة منذ 2002 ولكن الإعلان الفرنسي لم يسكت على الرغم من الحضر، فالناس أصبحوا في ضائقة وأصبح الصراخ سيد الموقف خاصة أن وعود سيد الإليزيه ذهبت أدراج الرياح وتحطمت طموحاته على أعتاب هذه الأزمة.
كما أعلنت حوالي 1010 شركات يابانية إفلاسها قبل نهاية عام 2008 وقد اضطرت هذه الشركات للقيام بهذه الخطوة لأسباب عدة على رأسها تأثرها بالأزمة الاقتصادية.
في ابريل 2009 أعلنت اثنتان من كبرى شركات صناعة الإلكترونيات في العالم، «توشيبا» و«سوني أريكسون»، عن خفض الآلاف من قواهما العاملة بتأثير الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أدت لانكماش حاد في سوق العمل بجميع أنحاء العالم.
ولمواجهة هذه التداعيات الكبيرة المتمثلة في أكبر عمليات الإفلاس والخسائر الهائلة لكبرى مؤسسات العالم الاقتصادي الرأسمالية فان هناك كوارث مالية واقتصادية لا تطول مالكي هذه الشركات والمؤسسات فحسب وإنما قد طالت وللأسف الجماهير الكادحة:
لذلك فإن الصرخة الأولى صدرت من رئيس البنك الدولي في ابريل 2009 بعد تعرض أكثر من 90 مليون إنسان في العالم للفقر هذا العام بسبب الأزمة العالمية وإن أكثر من ثلثهم بشرق أوروبا وآسيا الوسطى، متوقعا أن يصل عدد الجياع إلى مليار جائع على مستوى العالم وبالعودة الى هذا التصريح الخطير الذي ينذر بالفعل الى كارثة دولية نرى وسائل الإعلام تبسط الأمور وكأن صاحب هذا التصريح انسان عادي أو باحث.
وحين نتكلم عن الحل للأزمة المالية العالمية، فإننا نتكلم عن منظومة اقتصادية متكاملة ومرتبطة الحوادث، ولا نزعم أن الحل يكمن في لمسة عصا سحرية وإنما يقدم الاقتصاد الحلول وأنظمة العمل التي بالإمكان تطبيقها تدريجيا للوصول للحالة المثلى للبشرية في الجانب الاقتصادي، ان الحلول التي وضعت مؤخرا تزيد الطين بلة مثل إغراق الأسواق بالمال، فهذا خطأ وخطر فادح يؤدي الى القضاء على ما تبقى من منظومات اقتصادية ما يعني انه أحد أسباب الاضطراب الذي عصف بالأزمة بعد أن هدأت العاصفة نسبيا لذلك لابد من تقليل الكتل المالية بشكل تدريجي والاعتماد على النقد المغطى بالذهب ومن الأفضل أن يتحول على الأقل الخزين النقدي الاستراتيجي إلى نقود ذهبية وفي التجربة الماليزية مثال عملي على ذلك، لأن وجود كم هائل للأموال يولد جوانب سلبية في التعاملات المالية ومنها توسع غير مسيطر عليه للمضاربات في الأسواق المالية بما في ذلك تلك التي تجري عبر الانترنت على حساب المعاملات المالية الحقيقية، وكذلك فإن هذه المضاربات تؤدي إلى صفقات لا تقدم أي قيمة مضافة في الأسواق كذلك لابد من لجم جماح البنوك التي تطل برأسها عبر القروض غير المدروسة والعمل على حث المصارف الصغيرة للاندماج بالمصارف الكبيرة. وأخيرا لابد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة العمل على وضع الصور في مكامنها واطلاع الرأي العام على حقيقة الأمور وتصويبها ربما يكون في ذلك جدوى ويصبح الفرد عنوان التحمل والصبر بدلا من أن يكون قنبلة موقوتة تنفجر عند أول منعطف.
بقلم: المستشار د.محمود ملحم
[email protected]