حصانة المحامي حق لتدعيم العدالة وصون الحريات والايمان بالقانون، فمهنة المحاماة في فرنسا وفي المجتمعات الأوروبية هي مهنة «الاتيكيت» وفي الماضي القريب كانت مهنة «البرجوازية» اما اليوم فباتت مهنة «الخطر» حيث يسير المحامي في عمله كما يسير على الأشواك ويسهر الليالي ويقلب الاوراق، يقابل الناس ولا يستطيع ان يَعِدَ.
في الماضي القريب جلست مع المحامي القدير الاستاذ خالد العبد الجليل وسألته عن خبرة 20 سنة قضاها في المحاماة فقال لي كلاما جميلا يحفر في العقل كما يحفر الدهر في الصوان، اجاب : للحق طريق بعيد مثقلة بالدفاع عن هموم الناس، فإذا كانت الجبال عاجزة عن حفظ الأمانة، حفظتها على حساب عائلتي وصحتي.
وللمحاماة رسالة خطيرة يرتبط بها مصير العدالة.. فالعدالة تدور وجودا وعدما مع وجود الدفاع الحر القادر على اداء مهمته على قدم وساق مع السلطة الأخرى التي تشاركه في إظهار الحق وإعلاء راية العدل وتطبيق العدالة.. شكرا استاذي باسم العدالة، شكرا استاذي ولو كانت كلمة الشكر هدية بسيطة.
فلمثلث العدالة اضلاع ثلاث احدها قاض محايد وممثل للمجتمع (ممثل اتهام) ودفاع حر، ومهمة المحاماة كمهنة إنسانية تعاون القضاة في تحقيق العدالة وظهور الحقوق، بل وردها لأصحابها، وللقيام بهذا الدور الحيوي المرتبط بالعدالة في المجتمع يجب ان يضمن المشرع للمحامي ما من شأنه ان يتيح له ممارسة عمله بحرية ويحميه من التعسف وكل ما من شأنه ان يعرقل رسالته اسوة برجال القضاء واعضاء النيابة.. فالنيابة العامة كطرف اصيل في إقامة العدالة وصون الحق وحصانة المجتمع وصمام امان للديموقراطية وحفظ حقوق من ليس لهم عون تتمتع بالعديد من المزايا والسلطات التي تيسر لها اداء دورها.. اما المحامي وهو ايضا طرف اصيل في إقامة العدالة لم يمنحه المشرع ما منحه لأعضاء النيابة العامة من حصانات وضمانات تمهد له طريقه في سبيل الوصول إلى اداء دوره كممثل للاتهام.
فمنح حصانة للمحامي من شأنه السماح له بممارسة عمله بحرية وحماية بعيدا عن اي تعرض له في عمله او اي اعتداء يقع عليه حيث يجب ان يتمتع بهيبة كهيبة رجال القضاء والنيابة حيث لا فرق بينه وبينهم اثناء ادائهم جميعا لعملهم المقدس وهو اظهار الحق ورده لأصحابه.. فبعض القوانين اعتبرت الاعتداء على المحامي اثناء الجلسات كالاعتداء على القاضي وعاقبت المعتدي بنفس العقوبة المقررة حال اعتدائه على قاضي الجلسة وكان منطق الامور يقتضي السير في نفس الاتجاه وصولا للمساواة في الحصانة القضائية.. فالرأي الذي نتوجه به للمشرع هو ان ينظر بعين الجد إلى طبيعة عمل مهنة المحاماة مقارنة بعمل النيابة وسلطة القضاء.
فإن اعتبر المحامي هو رجل القضاء الواقف الذي يبذل الكثير من الجهد في سبيل كشف الحقيقة حق منحه نفس الحصانة الممنوحة لزميله عضو النيابة الذي يسعى بدوره لنفس الهدف وهو كشف الحقيقة إلا انه يسعى للهدف محملا بالأسلحة والوسائل التي تعينه على الوصول إليه.. إذ يعامل عضو النيابة كرجل سلطة وحصانة بينما يعامل المحامي في الإدارات والمصالح كموظف او اقل من الموظف في حين ان دور كليهما واحد وإن تضادا الدورين فكلاهما يمثل حقا يسعى للوصول إلى تأكيد وجوده.. فقد يكون المحامي موقفه مطابقا تمام المطابقة للحقيقة ومحققا للعدالة وقد يكون الموقف المطابق للحقيقة هو موقف رجل النيابة. لذا يجب ان يتمتع المحامي بحصانة وينظر إليه كما ينظر لرجال النيابة والقضاء على اعتبار انه احد جناحي العدالة التي تحلق بهم في جو الحرية وسماء العدل.
فالمحامون فرسان جندوا لنصرة الحق وإعلاء كلمته ويدرأون الظلم وهم في سبيل ذلك يتعرضون لما قد يعرقل سيرهم .. فهم يتعاملون مع رجال السلطة الذين جبلوا على التلويح بالسلطة بل واستعمالها ضد المتعاملين معهم، الامر الذي يقتضي تحصين المحامين بإقرار الحصانة القضائية لهم كي يستطيعوا إنجاز مهام عملهم بشرف وكرامة.
والمشرع منح بعض الافراد حصانات شخصية خاصة بأداء اعمالهم كأعضاء البرلمانات والممثلين الديبلوماسيين واعضاء المنظمات الدولية، واخيرا رجال القضاء والنيابة، وكان الامر يقتضي منح الحصانة القضائية للمحامي اسوة برجال القضاء والنيابة، إذ ان عملهم جميعا يدور في فلك واحد.
فإذا كان مبرر منح الحصانة لرجال النيابة هو تمكينهم من كشف الحقيقة ومعاونة رجال القضاء على إقرار العدل وإظهار الحق فهي الرسالة عينها التي يقوم بها المحامي مما يقتضي المعاملة بالمثل.
وإن كان رجل القضاء منح حصانة قضائية لضمان تحقيق العدالة والمساواة وهو كذلك صمام امان لإعلاء راية الحق والسند الحقيقي لكل مظلوم ونحن نفتخر بالقضاء النزيه العادل المنزه في الكويت الذي خطى خطوات جبارة نحو الاحكام التي بدأت تدرس في افضل الجامعات في العالم، فالمحامي دوره دفع الظلم الذي هو اساس اقرار العدل.
والعدل يعني تمكين صاحب الحق من الوصول إلى حقه من اقرب الطرق وايسرها.
واسم العدل الوسط كما عرفه فقهاء القانون مشتق من المعادلة بين شيئين بحيث يقتضي شيئا ثالثا وسطا بين طرفين. لذلك كان اسم الوسط يستعمل في كلام العرب مرادفا لمعنى العدل. فقد روى الترمذي عن ابي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيره لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم امة وسطا)، قال: «عدلا، والوسط هو العدل».
وروي عن سيد الخلق انه عليه الصلاة والسلام اوجب على كل قاض الا يقضي في الحادثة حتى يسمع كلام الخصوم سماع فهم وتدبر، لقوله صلى الله عليه وسلم للإمام علي، كرم الله وجهه: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى ان يتبين لك القضاء».. ومعنى الحديث الشريف ان إقامة العدل تقتضي معاونة الخصوم على الوصول إليه عن طريق تمكينهم من الدفاع عن انفسهم وهو ما لا يتم وإحدى كفتي الميزان اقوى من الأخرى وهي قبضة النيابة التي قويت على حساب الكفة الأخرى (الدفاع).
لذا نناشد المشرع اتخاذ قراره الجريء بمنح حصانة قضائية لرجال المحاماة اسوة بقرنائهم من القضاة واعضاء النيابة لاتحاد السبب الموجب لمنحها للقضاة وأعضاء النيابة ولعظم دور مهنة المحاماة في تحقيق العدالة وإعطاء الحقوق لأصحابها.
وهذا المطلب كثيرا ما نادى به رجال القانون من محامين وفقهاء قانون لكن لم يجد إلى الآن آذانا صاغية وهو ما نتمنى مراعاته في احدث تعديلات تشريعية على قانون السلطة القضائية او قانون المحاماة.
[email protected]