أي تشريع يصدر من السلطة المختصة بإصداره ـ السلطة التشريعية ـ يكون المخاطب به والموجه إليه هم أشخاص الدولة المنظمة للسلطة التشريعية المختصة بالتشريع والشخص المخاطب في جميع الأحوال يتصف بأدق وصف له وهو طبيعته الإنسانية التي يجب أن يراعيها فيه من يوجه إليه الخطاب.. إذ يجب دائما أن يتيقن مصدر الخطاب من أن المخاطب بشر يحب ويكره.. يرضى ويسخط بل يثور ويغضب.. يفرح ويحزن.
وإذا تطرقنا لقانون الجزاء والتعديلات الأخيره للأسف، وهو القانون الذي يعيش مع الإنسان في أصفاد واحدة.. نجد ضمن المبادئ المستقرة وفق هذا القانون هو مبدأ ـ لا اعتداد بالنوايا أو البواعث على ارتكاب الفعل المجرم كما لا يعتد بالطبيعة الإنسانية للمكلف باحترام أحكامه.. فلو أن شخصا وجد مصابا ينزف وحاول إسعافه دون أن يكون ذا دراية فأخطأ وتوفي المصاب عد مرتكبا لجريمة قتل خطأ.. ومن قاد مركبته برعونة ومتجاوزا الحد الأقصى للسرعة المقررة قانونا فقتل أحد المارة عد مرتكبا أيضا لجريمة القتل الخطأ.. ومن يقتل من اعتدى على شرفه وسمعته وهو في حالة غضب كمن يقتل بغرض السرقة أو الزنا أو بسبب القمار. ففي إحدى القضايا المنظورة أمام المحاكم الجنائية التي نود أن نسردها للقارئ إيضاحا لما سننتهي إليه من رأي في ذلك الشأن، كان ما يلي:
«أحد الأشخاص وبعد عودته من عمله علم أن أحد الباعة اعتدى على والدته عقب مشادة كلامية بينها وبينه.. ووصل حد الاعتداء ذروته إذ قام بشتمها بأقذع الألفاظ والسباب والشتائم وتطاول عليها بالضرب إلى أن وصل الحد أن طرحها أرضا وهي سيدة ضعيفة وأوجعها ضربا.. وعقب علم صاحب القضية بالحادث تحركت عنده مشاعر الإنسانية التي وضعها بداخلنا الخالق ـ جل شأنه ـ فانطلق لفوره قاصدا ذلك الشخص، ولم يكن يدور بخلده عندها أي فكر آخر غير أن يطفئ ما أشعله ذلك الشخص بداخله من نيران الغضب.. وبعد أن التقيا ما كان من ذلك الشخص المعتدى على والدته إلا أن قام بضرب المعتدي بقطعة من الحديد محدثا به عدة إصابات توفي بسببها.. تم تكييف تلك الواقعة من قبل سلطة الاتهام على أنها جريمة ضرب أفضى إلى موت وحكم عليه بحبسه سبع سنوات وهو الحد الأقصى للعقاب على تلك الجريمة». هذه إحدى الحالات التي تطغى فيها الطبيعة الإنسانية على الفعل المجرم وتقتضي مراعاة كون النفس البشرية من شمائلها الضعف.. كما هناك من الحالات التي يسمو فيها الباعث على ارتكاب الفعل المجرم ولا يجد في نصوص القانون مراعاة أو اهتماما، ويكون سبب ارتكاب الفعل المجرم ليس من اجل الجريمة ذاتها ولكن لغاية نبيلة تحركت في نفس صاحبها فجعلته يقدم على ارتكاب الفعل الذي وضعته نصوص القانون موضع التجريم. على النقيض هناك من الحالات ما يتدنى فيها الباعث على الجريمة إذ ترتكب لأتفه بل وأحقر الأسباب.. ويتساوى الفاعلان في نظر المشرع من يرتكب الجرم لأتفه الأسباب بل واستهانة بالمجتمع.. ومن يرتكب الفعل لغاية أو بسبب طبيعته الإنسانية وما غرس بداخلها من مشاعر لا دخل له في وجودها ولا قدرة له على اقتلاعها.. إلا أن يناشد من بيدهم سلطة التشريع أن يراعوا كون من يخاطب باحترام قانون العقوبات إنسانا ذا طبيعة إنسانية تتميز عما سواها من مخلوقات بخصائص كفيلة بأن تجعل من يحدد له الجرائم ويضع له العقاب أن ينظر بعين القلب إلى ذلك الإنسان. وبالنظر إلى ما فعله المشرع في بعض الحالات نجد انه مشكورا راعى تلك الطبيعة الإنسانية.. فخفف العقاب حال مفاجأة الزوج زوجته بالزنا فقتلها هي ومن يزني بها فنزل بالجريمة ليجعلها جنحة مراعاة للحالة الإنسانية التي يكون عليها الزوج المخدوع من الغضب والهيجان. وهذه مفارقة غريبة من المشرع، يضع مبدأ عاما لكل الجرائم بأنه لا اعتداد بالباعث على ارتكاب الجرائم وكأنه يقول ان المكلف بأحكام القانون ليس إنسانا ولا توجد جريمة تستحق النظر إليها بعين الشفقة.. أو ينظر لفاعلها بكونه إنسانا أو أحيانا يكون صاحب غاية تسمو على الوسيلة.. ثم يعود ويستثني بعض الجرائم من ذلك ويوردها على سبيل الحصر رغم أن العلة واحدة.. فالأوجب أن يكون تقدير الطبيعة الإنسانية مبدأ عاما شاملا كل الجرائم ولا يلزم أن تكون (الطبيعة الإنسانية) عذرا معفيا تماما من العقاب ولكن عذر يخفف العقوبة أو يمنع اعتبار مرتكبها عائدا.. كما يجب أن يراعي الباعث على ارتكاب الجريمة بأن يكون من بين نصوص القانون ما يخفف العقاب على من يرتكب الفعل لغاية تسمو على الجريمة ذاتها.. فالجريمة يعاقب مرتكبها لنظر المجتمع اليه على أنه انتهك حقوق وحرمة هذا المجتمع لسلوكه الشاذ والخارج عن الجماعة، أما إن كان فعله مبتغاه غاية نبيلة فلا مبرر لاعتباره خارجا على الجماعة وتطبيق أقصى العقوبة عليه.
[email protected]