بعـد استعــــراضي وتحليلي للثوابت والقواعد العامة لجريمة غسيل الأموال في المقال السابق من حيث التعريف والأركان، وبعد ان أظهرنا من الناحية القانونية مدى خطورة هذه الجريمة وتأثيرها على المجتمعات سواء اكانت شرقية أم غربية، فقد آثرت في هذا المقال إبراز خطورة هذه الجريمة من الناحية الاقتصادية البحتة.
ان جريمة غسيل الأموال تتفرع عنها آثار سلبية تنبثق عنها المسؤولية الاقتصادية الهدامة.
فعملية إعادة الإقراض والاستثمار في الأوراق المالية وخاصة في الأسواق المفتوحة حيث الرقابة ضعيفة تكون أولى الضحايا، حيث يقوم الغاسل بإيداع أمواله لدى بنك خارجي حتى لا يخضع لقيود وإجراءات غسيل الأموال ثم يقوم بطلب قرض من أحد البنوك المحلية في بلد آخر بضمان تلك الأموال المودعة في البنك الأجنبي، ويتم الاستثمار في الأوراق المالية لسهولة تحويلها إلى نقود، فضلا عما تمنحه أغلب الدول من إعفاءات ضريبية على مثل هذا النوع من الاستثمار. يعني في اللغة اللبنانية «تلبيس طرابيش لضياع طربوش من لمن».
وبذلك يتضح من خلال طرق غسيل الأموال في العالم أن البنوك تلعب دورا مهما في تسهيل أو منع انتشار هذه الجريمة التي طالما ارتبطت بالإرهاب والفساد الاقتصاديين، ونتيجة لذلك تترتب عن تلك الظاهرة آثار سلبية هدامة لا يعي مرتكبها للأسف أنه يتجه نحو هدم الاقتصاد الوطني وضياع مستقبل الأجيال، وهذا ينطبق على المستوى الاقتصادي الوطني أو الدولي.
ويشكل الضغط على موارد الدولة من العملة الأجنبية وإيجاد علاقات غير عادلة لأسعار الصرف إحدى ضحاياها، الأمر الذي قد يؤدي إلى قيام ظاهرة حب الاكتناز للعملات الأجنبية في الدولة التي تتحقق من ورائها أرباح طائلة، إضافة الى إصابة المجتمع بظواهر اقتصادية متعارضة هدامة، ففي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع نتيجة ارتفاع أسعار الواردات وعدم قدرة مصادر البلاد من العملة الأجنبية على تغطية حاجتها من الواردات تتسع الخسائر، وهنا تبدأ الدولة في فقدان السيطرة على الاقتصاد وتتجه نحو الاستعانة بالدول الكبرى وعادة تكون صديقه متربصة، لندخل بعد ذلك في «النفق المظلم»، كما يحدث ارتفاع في الأسعار بشكل متواصل لا يستطيع معه المستهلك شراء السلع والخدمات نظرا لمحدودية الدخل أمام ارتفاع الأسعار.
كذلك ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل نظرا لتهرب المستثمرين وعدم إقامة مشروعات استثمارية جديدة، فعدم الاستقرار الوظيفي يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وتراجع حجم الإنتاج.
اضافة الى انخفاض قدرة الدولة على سداد التزاماتها المحلية والخارجية مع تفاقم الدين المحلي والخارجي، مما يؤدي إلى عدم استعداد المقرضين لمنحها قروضا إضافية إلا بشروط صعبة، وبالتالي اتجاه الدولة إلى الإفلاس.
يضاف إلى ذلك التهرب من الضرائب ومن ثم معاناة خزينة الدولة من نقص الإيرادات العامة عن مجمل النفقات العامة. إضافة إلى الآثار السابقة فإن سوق الأوراق المالية هي أيضا تأثرت بظاهرة غسيل الأموال من خلال تقلبات الأسعار بين الحدة الارتفاع والهبوط.
واستنادا الى ما تقدم فإن عملية غسيل الأموال تشكل نشاطا إجراميا لاحقا لنشاط جمع مال بالطرق غير المشروعة.
ولإضفاء المشروعية على مصدر تلك الأموال، ترتكب الجريمة حتى يسهل التعامل مع مرتكبيها، دون إضفاء الشكوك والأدلة القانونية على الأعمال المجرمة السابقة وهذه الجريمة هي جريمة دولية تتساوى فيها النتائج داخليا ودوليا، ولكن الأساليب تبقى كما هي لا تتغير.
لذلك تعد جريمة غسيل الأموال من أخطر الجرائم التي ترتكب بحق المجتمع، وهنا أسأل دائما هل يدرك هؤلاء أن بعملهم هذا يهدمون أوطانا ويضعون مستقبل أجيالهم في مهب الريح، وهل يدركون أن من مخاطر تبييض الأموال تبديد الثروات التي هي حق للأولاد والأحفاد والأجيال القادمة.
ان جريمة تبييض الأموال خروجا على القانون والجماعة، بل وعلى النظام العام، فهي شذوذ عن السلوك المألوف والطريق القويم وإجرام منظم يؤثر على الاقتصاد القومي والجماعة والدولة ككيان، بل يتعداه أيضا إلى الاقتصاد العالمي، إذ تعد الجريمة المنظمة اخطر أنواع الإجرام، ترتكبها جماعات منظمة تمتلك من الوسائل ما يمهد لها إتمام جريمتها والهروب من سطوة القانون خاصة اذا كانت تلك الجماعات النافذة تمتلك من الوسائل ما يدخلها ضمن دائرة المحظور مسه.
وهنا تكمن الاشكالية في ان تحويل الأموال الناتجة عن الأعمال غير المشروعة في أنشطة استثمارية مشروعة لإخفاء المصدر الحقيقي لهذه الأموال ولتبدو كما لو كانت قد تولدت من مصدر مشروع، من أخطر ما يهدد الاقتصاد المحلي سواء كانت الجريمة المنظمة داخلية أو خارجية أو مشتركة وهنا يكمن الخطر. ففي نظرهم أرقام تتكدس، سيارات وفلل ويخوت، وسلطة وفي نظرنا للأسف أوطان تضيع واقتصاد ينهار وفقر ينتشر وبطالة تدق الأبواب.
لذلك فعمليات غسيل الأموال هي عملية أو مجموعة من عمليات مالية أو غير مالية تهدف إلى إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال أو عائدات أي جريمة وإظهارها في صورة أموال أو عائدة متحصلة من مصدر مشروع، ويعتبر من قبيل هذه العمليات كل فعل يساهم في عملية توظيف أو تحويل أموال أو عائدات ناتجة بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن جريمة أو إخفاء أو تمويه مصدرها. وقد كان للأوروبيين ردة فعل عندما أدركوا أهمية هذا الأمر فانعقدت المؤتمرات وأدخلت الاختصاصات في الجامعات حتى وجدوا ضرورة الحد منها وان كانوا قد تيقنوا بانعدام الوسائل للقضاء على هذه الظاهرة.