زيادة الإنفاق العام على القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم وغيرها في دول العالم المتطورة، أدت إلى دفع النمو الاقتصادي بشكل عام للأمام، حيث من المتوقع ان يصبح اقتصاد الصين الأول عالميا في 2025، على أساس الناتج المحلي والنمو والإنفاق التكنولوجي والعسكري، ويرجع السبب في ذلك الى 3 نتائج أساسية، هي:
1- كلف التبادل التجاري الحر الدول الصناعية تكاليف جسيمة، خاصة في ظل وجود لاعب مهم كالصين على الساحة الدولية.
2- الأفراد ذوو الدخل المحدود أصبحوا عرضة للفقر في ظل هذا الواقع، خصوصا عندما تكون مديونية هؤلاء الأفراد مرتفعة.
3- خلق ردات فعل سياسية تمثلت في الضغط على الطبقة السياسية لتغير سياساتها لمنافسة المهاجرين في سوق العمل وفي المداخيل، وهذا ما أدى لوصول الرئيس ترامب إلى سدة الرئاسة وصعود اليمين المتطرف.
كما يمكن قراءة تغير التوازن بين الدول الصناعية والدول الناشئة في مؤشر النمو النشاط الاقتصادي العالمي، حيث بلغ مؤشر الإنتاج الصناعي العالمي 115 نقطة في 2016، قافزا من 100 نقطة في 2008.
ويتركز التوزيع الجغرافي لهذا المؤشر بين اغلب الدول عند 100 نقطة باستثناء الصين والتي تجاوز مؤشرها 179 نقطة، وهذا يعني ان توزيع الإنتاج العالمي قد تغير بشكل كبير خلال العشر سنوات الأخيرة لصالح دول آسيا.
وهذا هو التحدي الأهم للدول المتقدمة ألا وهو المحافظة على إنتاجها الصناعي على أراضيها وخلق بيئة تحفيزية للاستثمار والحد من الاستنزاف وزحف رؤوس الأموال.
هذا التوجه كان واضحا من خلال خطاب الرئيس ترامب عن سياسته الاقتصادية للمرحلة المقبلة، شدد على تمركز الصناعات داخل الولايات المتحدة ومعاقبة الشركات الى تنقل صناعاتها خارجها.
لقد تغير العالم بشكل جذري خلال 8 سنوات ماضية، مع تبدل الموازين الاقتصادية على حساب الدول المتقدمة، حيث تعاني هذه الأخيرة من سياسات تقشفية، وعجز منهجي في ميزان المداخيل مع الدول الناشئة والذي من شأنه ان يؤدي الى ضعف النمو وضعف البيئة الاستثمارية الحاضنة.
لذالك، تحتاج أوروبا إلى قوة دفع جديدة لتحسين النمو واستدامته على المدى الطويل، وهناك احتمالان: الأول ان يكون للابتكارات والتكنولوجيا تأثير قوي على الاقتصاد من خلال تحسين الإنتاجية لسد الثغرة الناتجة عن شيخوخة المجتمع.
أما الاحتمال الثاني، فهو اللجوء إلى السياسة المالية، نظرا للمكاسب الإيجابية التي يمكن ان تجنيها الحكومات من جراء أسعار الفائدة المنخفضة، وبالتالي من التكلفة المنخفضة للدين على المدى الطويل.
هذا بالإضافة إلى ان الحكومات هي الجهة الوحيدة القادرة على تحمل المخاطر طويلة الأجل، وهذا مهم لأنه يدعم الاستثمار الذي بدوره أضعف من ان يكون المحرك للنشاط الاقتصادي.
لذلك يأتي دور الحكومات لاتخاذ بعض الإجراءات لخلق بيئة استثمارية سليمة وتحفيزية للقطاع الخاص، وهذا يعني ان يكون هناك دور للحكومات في الابتكارات وفي تمويله، بحيث يكون شبيها بالدور الذي لعبته خلال سنوات 1960.
فالفكرة الرئيسة هي ان اقتصادات الدول المتقدمة تعاني نموا ضعيفا غير قادر على خلق فرص عمل، وزيادة المداخيل، وتمويل شبكة الضمان الاجتماعي.
ومن المهم ان تجد الحكومات نفسها في مفاضلة بين المحافظة على المخاطرة بالاستقرار الاجتماعي والسياسي أو الدعم المباشر للاقتصاد الذي من شأنه ان يسرع من الآثار الإيجابية للابتكار على الإنتاجية.
ومن المؤكد ان عملية الدعم مكلفة لناحية المخاطر المترتبة على ارتفاع الدين العام وعلى أسواق السندات، ولكن المخاطر المترتبة على الديون الخاصة أكبر بكثير، حيث ستعرقل عمليا السياسات النقدية من تحقيق أهدافها، وتقف عائقا أمام مسار النمو على الأجل الطويل.
العالم يتغير بشكل جذري، ويبدو انه في تباعد مستمر مع مستويات وخصائص الاستقرار الاقتصادي الشبيه بالفترة ما قبل 2008، لذلك يوجد دور جديد للحكومات لكي تلعبه ألا وهو السياسة المالية لأنها الجهة القادرة على تحمل المخاطر على الأجل الطويل.
وكما عودتنا دائما فإن الولايات المتحدة أول من يفتتح نوادي السياسات الاقتصادية الجديد، وبما أنها بدأت بتطبيق سياسة مالية توسعية، أليس بالأحرى بأوروبا أن تحذو حذوها سريعا منعا لاستنزاف الاقتصاد على الأمد الطويل؟!