عدت قبل أيام من إجازتي من أرض الكنانة، وعلى مدى أيام تلك الإجازة حاولت جاهدا قراءة المشهد الجديد بعد ثورتين قام بهما الشعب المصري لإعلاء كلمته وفرض إرادته سعيا لتحقيق تطلعاته إلى غد أفضل.
أكثر ما كان يهمني هو رصد الحالة النفسية لأبناء المحروسة، لذا فقد حرصت على الالتقاء بأكبر عدد من مختلف التيارات والفصائل، تناقشت مع عدد ممن يؤيدون نظام المعزول، وبالطبع تعاملت مع من يؤيد النظام الحالي ويرون أنه السبيل لمستقبل يشعرون فيه بالأمن على أنفسهم وعلى أبنائهم.
ومن خلال التواصل مع كل الأطراف حاولت ان يكون رصدي اقرب الى الواقع.
المعادلة الصعبة التي حاولت أن أجد لها تفسيرا تتمثل في الوضع الاقتصادي لكثير من الأسر، فعلى الرغم من أن الغلاء هو العامل المشترك الذي يقره الجميع إلا أن حركة البيع والشراء في قمة نشاطها، فبعيدا عن السلع الأساسية للطعام والشراب والملابس، تعيش تجارة الأراضي والعقارات واحدة من أفضل فترات مجدها، أما حركة البناء والتشييد فتعبر عنها حالة المقاولين عندما تطلب أحدهم لإنجاز أمر ما ولو كان بسيطا في منزلك، فلا تجد لديه موعدا قبل شهر لأنه مشغول بالعمل في مشاريع مختلفة ولا يمكنه الإخلال بتعهداته وعقوده.
وإذا انتقلنا إلى هموم الشباب وما يواجهونه من تحديات، فإننا نجد أمرا مثيرا للدهشة، حيث ان هناك حالة غريبة من التفاؤل تظهر بوضوح في حوارات الشباب وحماسهم في البحث عن عمل والتفكير في تحسين مستواهم الاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وهو ما يبشر بمستقبل مزدهر لشعب خلع تماما عباءة الاستسلام للهيمنة تحت ذريعة الخوف وتعلم كيف يكون إيجابيا ينتقد ويطالب ويفكر ويطرح حلولا وبدائل.. وكلها أمور ستؤتي ثمارها اليانعة في القريب العاجل.
وعندما ننتقل إلى مشكلة المشاكل، وهي مشكلة الكهرباء التي عانت منها مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها على مدى الأسابيع والشهور الماضية، فسنجد أن الشعب المصري تعامل مع هذه الأزمة بشكل مختلف، فمعظم البيوت تستخدم ماكينات توليد الطاقة خلال أوقات انقطاع التيار، ومصابيح الإضاءة التي تعمل بنظام الشحن تملأ البيوت، والأهم من ذلك أنهم راحوا يستبدلون مصابيحهم العادية بأخرى موفرة للطاقة، ومنهم من راح يفكر بصوت عال ليعلن عن أهمية استخدام الطاقة الشمسية في توليد الطاقة.
أما الحالة النفسية للناس، فلم تكن أقل إيجابية من تفاعلهم العملي مع الأزمة، بل انتشرت روح الفكاهة التي عرف بها المصريون في أحاديثهم عن مشكلات الكهرباء.
لقد وجدت أن الشعب المصري يستعد بكل فئاته وطوائفه وتياراته لتحقيق انتفاضة جديدة، انتفاضة علمية واقتصادية تمحو هموم السنوات العجاف التي تحمّلوها، إلا أنهم في انتفاضتهم هذه لا ينتظرون أن تقدم لهم الحكومة كل شيء، بل إنهم يسلحون أنفسهم بالمثابرة والإقدام، ويسارعون إلى اقتناص فرص المبادرة لصنع مستقبلهم بأيديهم.. وبالتأكيد لن يخفقوا هذه المرة، فقد تعلموا الدرس جيدا.. فهنيئا لمصر بشعبها الجديد.
وعلى الحكومة أن تحسن استثمار هذه الحالة الإيجابية لدى السواد الأعظم من الشعب، فهي تحظى بنسبة دعم غير مسبوقة، وهذا الدعم يتمثل كما ذكرنا في الصبر والمثابرة والحماس والإقبال على العمل، وإذا لم تنجح الحكومة في استثماره سينقلب كل ذلك إلى سخط غير مسبوق.
[email protected]