مخلد الشمري
إنّ نسبة التحضر في أي مجتمع هي التي تحدد رقي وتجانس هذا المجتمع، وقد تلاحظ مجتمعا ما، متعدد الأعراق والمعتقدات واللهجات والأشكال، ومع ذلك يعيش أفراد هذا المجتمع في قمة التسامح والتجانس والعيش المشترك والاحترام المتبادل، ومن جانب آخر تسمع عن كثير من المجتمعات - وبالذات في منطقة الشرق الأوسط - يتشابه أفرادها في العرق والشكل واللغة واللهجة، ولكنها قد تكون متعددة المعتقدات أو المذاهب، ومع ذلك تعاني تلك المجتمعات منذ عقود أو قرون من عدم الاستقرار أو من الحروب الأهلية والأزمات الاجتماعية والسياسية المعقدة والمتكررة، ومن التنازع المستمر على السيطرة بين الأكثرية والأقلية بكل ما يتبع تلك السيطرة من اضطهاد وتسلط وتفرقة، يمارسها من يمتلك السيطرة والحكم على الآخر.
أما الأغرب من ذلك فهو تفاخر بعض شعوب دول الشرق الأوسط بحضاراتها القديمة، مع أن كلمة حضارة التي تؤسس للتحضر لا تنعكس على الأغلبية الساحقة من الأفراد الذين يعيشون اليوم في نفس بقعة الأرض والمكان الذي قامت عليه الحضارات القديمة، التي مازالت بعض آثارها العمرانية قائمة حتى هذا اليوم، بل ولا يرتقي سلوكهم وأفعالهم - للحضارة وللتحضر - وفي هذه الحالة الشاذة والغريبة يمكن أن نفسر ذلك بتفسيرين لا ثالث لهما وهما إما أن الشعوب القديمة لم تكن ترتقي بسلوكها إلى مستوى آثار حضارتها القائمة لهذا اليوم، أو ان افراد المجتمعات الذين يعيشون ويسكنون اليوم على نفس أماكن واراضي الحضارات القديمة، لا علاقة لهم - ولا يمتون - نهائيا بصلة الى تلك الحضارات وانهم ليسوا احفادا أو امتدادا لشعوب الحضارات القديمة، وهذا التفسير الأخير هو الأقرب للحقيقة في ظل ما نشاهده من انعدام التحضر وغياب التسامح وزيادة التعصب والرغبة في الغاء الآخر في المجتمعات الحالية التي تعيش على نفس الأراضي التي قامت عليها الحضارات القديمة في الشرق الأوسط، وكأن الحضارة هي آثار فقط يفتخر بها أفراد مجتمعات أغلبهم غير متحضرين هذه الأيام.