التحول إلى خصخصة الخدمات العامة بات أمرا واقعا لا محالة، والمسألة لم تعد سوى وقت لا أكثر، إذ إن للتاريخ حركة «سيرورة» أكبر بكثير مما نعتقد، وأضخم من أي محاولة لوقفها مهما بلغت درجتها من القوة، كما أن تردي الخدمات العامة التي تقدمها مؤسسات الدولة ـ سواء عن قصد للدفع بالخصخصة أو عن غير قصد نتيجة تراجع قيم العمل والانجاز لدى الموظفين ـ تساهم بشكل كبير في تسريع عملية التحول، إضافة إلى أن نماذج تقديم الخدمات العامة للمواطنين في القطاع الخاص أثبتت أنها أفضل بكثير من نماذج المؤسسات الحكومية في مختلف دول العالم، وبالتالي أصبح كل شيء تقريبا يدعو إلى الخصخصة باعتبارها الحل السحري للخروج من دائرة تردي الخدمات.
غير أن حتمية الانتقال من هيمنة الدولة على الخدمات العامة إلى هيمنة القطاع الخاص، لا تعني بالضرورة أن يكون هذا التحول والانتقال ظالما يستنزف ثروات الدولة لصالح «الرأسماليين الجشعين»، كما ينبغي ألا نتوقع أن يبادر أي رأسمالي إلى شراء أحد قطاعات الخدمات العامة دون أن يحقق ربحا يستحق ذلك الاستثمار، وبالتالي فنحن إزاء معادلة ينبغي أن تتحقق فيها عملية الخصخصة وفقا لمبدأ العدالة بحيث يحصل المواطن على خدمات جيدة ويحصل الرأسمالي المستثمر على ربح معقول وعادل، وهذه مسؤولية تاريخية تقع على عاتق وضمير أعضاء مجلس الأمة والحكومة بالدرجة الأولى.
ثمة من يعتقد أن النموذج الأميركي للاقتصاد الحر هو النموذج الأوحد والأصلح، والواقع أن تتالي الأزمات الاقتصادية الكبرى خير دليل على فشل الرأسمالية الجشعة، ومن غير المعقول أن نجد من ينادي باعتبار ذلك النموذج الفاشل مثالا يجب أن يحتذى، فالعالم مليء بتجارب اقتصادية أكثر اتزانا وثباتا، منها على سبيل المثال تجربة فرنسا والتي تجمع فيها حسنات النظام الرأسمالي دون بشاعته مع حسنات النظام الاشتراكي بعيدا عن مثاليته، ففي فرنسا 4 خدمات أساسية لا تسمح الدولة بخصخصتها، أولا الخدمات الصحية، فصحة البشر ليست سلعة ومن غير المقبول تركها بيد التجار، وإنما هي مسؤولية الدولة التي لا تسمح للقطاع الخاص بأن يتاجر بصحة البشر. وثانيا قطاع التعليم، إذ إن التعليم من الحقوق الأساسية لكل الناس «وليس فقط للمواطنين» ولا يجوز ترك التعليم بيد القطاع الخاص الذي أثبت الواقع أنه على استعداد للانحدار بمستوى التعليم لأدنى مستوياته من أجل تحقيق الربح، ثالثا السكن، فهو يرتبط أيضا بحق أصيل من حقوق الإنسان وإذا ما ترك الأمر للقطاع الخاص فلن نحصل على أكثر من آلاف المشردين ومئات الأزمات الاقتصادية الشبيهة بما يعانيه العالم اليوم من أزمة اقتصادية خانقة، رابعا الأمن والذي لا تسمح الدولة أيضا بتحويله للقطاع الخاص لأن أمن المجتمع مسؤولية عظيمة لا مجال للتلاعب فيها وتركها كسلعة للتكسب. أما غير ذلك من خدمات فيمكن للقطاع الخاص أن يساهم فيها كما يشاء وبحسب قوانين السوق واليد الخفية التي نادى بها آدم سميث.
فإذا كانت الدولة تتجه لا محالة نحو الخصخصة، فلا أقل من ترك تلك الخدمات الأساسية بيد الدولة، خاصة أنها ستتخلص من عبء كبير من الخدمات الثانوية وتتفرغ لتقديم الخدمات الأساسية، فهل تعجز الدولة عن إدارة 4 قطاعات خدمية حينها؟
[email protected]