يحمل مفهوم «الإنسانية» في طياته شيئا من الغموض واللبس، ويسمح ـ بسبب تداخله مع تصوراتنا عن الأخلاق ـ بتمرير الكثير من الأفكار التي تمثل نوعا من «كلمة حق يراد بها باطل»، فهو مفهوم مخادع وحمال أوجه، يصعب نقده لأنه ببساطة سيحيل الناقد إلى شخص متناقض ينفي ذاته.
ولفهم هذا الغموض في مفهوم الإنسانية علينا أن نعرف تاريخ المصطلح، أو تحديدا الحدث الذي تسبب في ذلك الغموض، فقد نشأت في أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى (عصور الظلام) حركة مناهضة لهيمنة الكنيسة التي كانت تتحدث وقتذاك باسم الله، فتقرر للبشر ما يجب وما لا يجب فعله في هذه الدنيا. وللخروج من تلك الهيمنة نادى فلاسفة التحرر (الليبراليون) بفكرة أن «الإنسان» قادر بذاته على فهم العالم وتقرير مصيره دون الحاجة لوجود إله يقول له كيف يتصرف وكيف يدير شؤون حياته، ووجدوا ضالتهم في مقولة بروتاجوراس السفسطائي «الإنسان مقياس الأشياء جميعا»، وبدأت مع عصر النهضة حركة «انسانوية» واسعة النطاق في الأدب «الأدب الإنساني» litera humaniores والفن والفلسفة وغيرها، وتحدد بذلك معنى جديد لمفهوم «الإنسانية» والذي أصبح مقابلا للإله، خاصة بعد النقد اللاذع الذي وجهه فولتير للدين. وارتبط المفهوم أكثر بمفهوم «الفردية» الذي يشكل أساس الفلسفة الليبرالية، وبات الاستخدام أكثر وضوحا وتطرفا ومهدا لظهور «العلمانية»، فالإنسان بهذا المعنى لا يقبل بأي سلطة أعلى من سلطته هو ولا بسلطان آخر غير سلطان العقل، فهو الوحيد القادر على تحديد معنى الخير والشر، وهو الوحيد القادر على «صنع» منظومته الأخلاقية، وهو الوحيد القادر على إدارة شؤون حياته الدنيوية، والله في هذه الحالة يصبح مجرد «فكرة زائدة عن الحاجة» كما يقول فويرباخ. من هنا نفهم المقصود بالغموض والتداخل في مفهوم الإنسانية، إذ يستخدم هذا اللفظ عادة للدلالة على الجانب الأخلاقي وما يحمله من مضامين تتعلق بحقوق البشر والدعوة إلى المساواة والعدالة والحرية والإخاء وغيرها، وهو ما ينبغي الحذر منه حتى لا تختلط المفاهيم ويتهم كل من ينادي بالمساواة وحقوق الإنسان بتهمة الإلحاد التي أصبحت رائجة هذه الأيام.
في عام 1933 صدر «بيان الإنسانيين الأول» humanist manifesto والذي كتبه روي سيلر وريموند براغ ووقع عليه أكثر من 40 شخصية مرموقة، من بينهم الفيلسوف البراجماتي الأميركي جون ديوي، تضمن البيان 15 بندا شكلت منذ ذلك الحين وحتى اليوم أهم مبادئ الايديولوجيا الانسانوية، من بينها البند الأول الذي ينص على أن «الإنسانيين يعتبرون الكون موجودا بذاته وليس مخلوقا»، والبند الثاني يقول «الإنسان جزء من الطبيعة». وللخروج من هذا التداخل المبهم لمفهوم الإنسانية وما لحق به من سوء السمعة، يستخدم كثير من المثقفين لفظ «الانسانوية» للدلالة على المذهب الفلسفي وتمييزه عن كلمة «الإنسانية» التي ربما يستخدمها كثير منا بحسن نية.
[email protected]