عندما شرع ابن خلدون في كتابة التاريخ، كان لديه سؤال جوهري شكّل فيما بعد أساس بحثه الاجتماعي وهو: كيف تقوم الدولة وكيف تنهار؟ وكان ابن خلدون يعتقد بأن للدولة دورة حياة تشبه دورة حياة الإنسان، وقد أقام نظريته هذه على أساس الآية 54 من سورة الروم (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير). وبناء على هذه الآية وضع ابن خلدون لقيام الدولة وانهيارها أربعة أطوار: طور الظفر والاستيلاء على الحكم، طور الاستبداد والانفراد بالسلطة والتنكر للعصبة، طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك وفيه تسود الراحة والطمأنينة، وطور الهرم والانقراض بسبب الإسراف والتبذير. وعلى الرغم من أنه وضع نظريته هذه بناء على مشاهداته لدول المغرب العربي إلا أنها أثبتت صدقها على كثير من دول العالم.
لفهم فكر ابن خلدون نحتاج إلى أن نفهم المصطلحات التي يستخدمها، وأهمها مفهوم «العصبية»، إذ فهم كثير من المفكرين هذا المفهوم بطريقة خاطئة واعتقدوا أنه يقصد «التعصب» للقبيلة أو الطائفة، خاصة أنه قال ان العصبية تقوم إما على روابط الدم أو الدين. غير أن ما يقصده ابن خلدون من مفهوم العصبية يعني تحديدا مفهوم «التضامن الاجتماعي» solidarity بمفاهيم علم الاجتماع الحديث، وهذا ما يؤكده المفكر الكبير محمد عابد الجابري في «معالم النظرية الخلدونية». والعصبية بمعنى التضامن الاجتماعي تعطينا أهم مفاتيح فهم حركة المجتمع وقيام الدول وانهيارها، فالمجتمعات إما تقليدية تحكمها معايير المكانة الاجتماعية والحظوة، وهو ما نراه بقوة في المجتمعات الريفية أو البدوية، وإما مجتمعات حديثة تقوم على أساس القانون ومؤسسات المجتمع التي تنظم حياة البشر.
مشكلتنا في الكويت أننا نقف اليوم في «منزلة بين المنزلتين»، فلا نحن مجتمع عشائري تقليدي تنتهي مشاكله بكلمة من شيخ القبيلة أو كبير العائلة، ولا نحن مجتمع حديث تشكل فيه المؤسسات القانونية المرجع النهائي. فنحن لا نزال نستخدم عبارات «الفزعة» التي توصل نائبا للبرلمان بسبب «رفع العقال»، ونتأرجح في قضايانا بين الاحتكام للدستور وبين «تدخل العقلاء» الذين ننتظر منهم ـ خارج إطار المؤسسات القانونية ـ أن يقوموا بحل المشاكل كلما تأزمت وكأنهم يملكون عصا سحرية. المجتمع الكويتي يتجه فعليا ـ لكن ببطء ـ نحو المجتمع الحديث، الذي من أبرز سماته تحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى الأسرة النووية، حيث يؤدي هذا التحول إلى إضعاف تأثير العصبية، إذ لا يعود لكبير العائلة أو القبيلة كلمة نافذة على جموع الناس طالما أن حاجاتهم ومصالحهم بيد المؤسسات وليس الأفراد. قبل ثلاثين عاما مثلا كنا نحضر «بيت الشعر» من فلان، و«جدور الطبخ» من آخر، وسجادة من هذا و«دلة قهوة وغوري شاي» من ذاك، و«عانية» من أبناء العمومة والأصدقاء ليتمكن أحدنا من إقامة عرس، فهذا الحدث الصغير ما هو إلا تعبير واضح عن العصبية بمعنى التضامن الاجتماعي، أما اليوم فقد اختفت هذه الحاجة وأصبح بإمكان أي شخص أن يزوج ابنه وينجز كل متطلبات حفلة العرس باستخدام التلفون، بل ويكتب على بطاقات الدعوة «نعتذر عن قبول العانية». المسألة بالتأكيد ليست بهذه البساطة، فهذا مجرد مثال يوضح التحول الاجتماعي الكبير الذي أصاب المجتمع الكويتي، فكل مظاهر الحياة تتجه بالأفراد صوب المجتمع الحديث القائم على الفردية والقانون والمؤسسات. وما نعيشه اليوم من فوضى توحي بتخلخل الدولة مرده أننا نقف في مرحلة الانتقال، فالتحول لم ينجز بعد، ولذلك علينا ألا نتوقع الكثير من مجتمع يتأرجح بين مفاهيم العشائرية ومفاهيم الدستور، خاصة أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، المسجد، الإعلام) لا تقوم بدورها المطلوب لترسيخ مفاهيم الدولة الحديثة، بل إنها تقوضها في كثير من الأحيان كما يحدث في «الواسطة» مثلا وهي أحد أكبر معوقات التحول إلى المجتمع الحديث.
[email protected]