ما يجري في العالم العربي من توتر وحراك اجتماعي وسياسي يستدعي الحديث عن نظرية العقد الاجتماعي، والتي يشكل فهمها بصورة دقيقة وعيا أكبر وتصبح الصورة عندها أكثر وضوحا. وعندما يدور الحديث عن نظرية العقد الاجتماعي فلا شك أن اسم توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو هو أول ما يتبادر إلى الأذهان بوصفهم أهم منظري العقد الاجتماعي، وإن كان موضوع النظرية قديم ونجد بداياته عند أفلاطون وأرسطو. بالنسبة لهوبز، كان السؤال الأساسي لديه: لماذا علينا أن نخضع للسلطة؟ فوجد أن الإنسان في حقيقته ما هو إلا «ذئب لأخيه الإنسان» homo homini lupus، سيلتهمه عند أول فرصة تسنح له، وهذا ما كان سائدا في مرحلة ما قبل الدولة والتي يسميها هوبز الحالة الطبيعية (state of nature)، ولأن الإنسان لن يتمكن من مواصلة الحياة في ظل هذا الوضع الهمجي، وجد نفسه «مضطرا» إلى التنازل عن حريته للحاكم، مقابل أن يحظى بالأمن والاستقرار التي يتوجب على الحاكم تأمينها للجميع. أما جون لوك فقد اتفق مع هوبز بشأن الحالة الطبيعية الهمجية، ولكنه اختلف قليلا بقوله بأنها ليست خالية من المسؤولية الأخلاقية والعيش فيها ليس مستحيلا كما قال هوبز. وهناك شواهد واقعية عبر التاريخ الإنساني، ولذلك جاء موقف لوك من الثورة على الحاكم أكثر انسجاما من هوبز، حيث كان يرى أن الأفراد تنازلوا عن «جزء» من حرياتهم للحاكم مقابل الحصول على الاستقرار والنظام، ولكن متى ما أخل الحاكم بواجباته فمن حق الأفراد أن يثوروا عليه ويستعيدوا ما كان لهم من منطلق مبدأ «الدفاع عن النفس». أما جان جاك روسو فقد خالف الاثنين كليا، حين اعتبر الحالة الطبيعية للبشر أنها حالة نقاء إنساني وأخلاقي دنستها يد الحضارة والتقدم، والتي أنتجت قيما جديدة قوامها الحسد والتنافس والجشع (الرأسمالية) والتي أدت فيما بعد وخاصة بعد ظهور «الملكية الخاصة» إلى الحاجة لوجود السلطة أو الدولة من أجل تنظيم هذه العلاقات الجديدة. هذا باختصار شديد أهم ملامح نظرية العقد الاجتماعي عند أهم فلاسفتها، وما يهمنا منها التأكيد على أن العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم هي علاقة «عقد اجتماعي» قوامها تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم للحاكم مقابل حصولهم على الأمن والاستقرار وتنظيم شؤون الحياة بالعدل والمساواة، وهي نظرية تخالف تماما ما روج له «منظرو السلطة» عبر التاريخ حين اعتبروا الحكم نوعا من «الالوهية» وهو ما يسمى بالحكم «الإلهي» على الأرض، والذي يحارب أي فكرة للثورة على الحاكم مهما بلغ به الطغيان والظلم، وهو فهم صارخ الوقاحة والانحطاط، إذ أنه يجعل الحاكم وهو إنسان مثله مثل بقية البشر بمثابة إله ومركز الكون والحياة، من أجله وباسمه تبرر كل الجرائم والمظالم دون اعتبار لحياة ملايين الناس وحقوقهم، وشواهده شاخصة في التاريخ منذ القدم وحتى اليوم، ونهاياته المأساوية أيضا عالقة في أذهان البشر في كل مكان.
ما حدث في تونس وفي مصر وبقية البلدان الثائرة ليس جديدا على البشرية، رغم أنه جديد على عالمنا العربي، وهنا نصل إلى وقفة مستحقة من بعض الأنظمة الحاكمة لتراجع حساباتها مع شعوبها المسحوقة والجائعة، وتتأمل فيما يحدث بعين راصدة وعقل متفتح بعيدا عن تضليل «الحرس القديم» ممن يعيشون خارج الزمن ولا يعون حجم التغيرات التي أصابت العالم الجديد ويعتقدون أنه لا يزال بإمكانهم حكم الناس بالحديد والنار والسجون والتعذيب. عالمنا اليوم تحركه تكنولوجيا الاتصالات العابرة للقارات وليس الصواريخ، والجوع كافر والفقير ليس لديه ما يخسره، فلا سبيل إذن إلا العدل في حكم الناس، فبالعدل وحده تستقر الشعوب ويستقر الملك، والحكيم من اعتبر بغيره قبل أن يعتبر به الناس.
[email protected]