بداية يجب الاعتراف بأن مصطلح المواطنة citizenship اقترن تاريخيا بنشأة المدينة في أوروبا، فالكلمة ذاتها مشتقة من كلمة civis اليونانية التي تعني «المواطن»، فاكتسب مصطلح المواطنة تعريفه وتطور معانيه من تطور الحضارة الأوروبية، والتي تطورت بدورها من خلال المجتمع المدني. ولذلك ليس غريبا ألا نجد في القواميس العربية القديمة أي ذكر لكلمة مواطن أو مواطنة.
***
يمكن الحديث عن ثلاثة نماذج للمواطنة، الأول بمعنى «الإقامة في المدينة»، وهذا أصل المفهوم ومنبعه في اليونان القديمة، فالمواطن الأثيني ببساطة هو من يقيم في أثينا، استمر هذا المعنى في أوروبا إلى قيام الثورة الفرنسية عام 1789، وقد وصف المؤرخ الإنجليزي كاكستون في كتابه «أخبار إنجلترا» المنشور عام 1480 سكان لندن بأنهم «مواطنو لندن»، وفي إحدى روايات شكسبير يتحدث عن مدينة بيزا بأنها «معروفة بمواطنيها الوقورين». هذه الإشارات تدل بوضوح على تحديد مفهوم المواطنة بمعنى الإقامة في المدينة ليس أكثر.
ثم جاءت الثورة الفرنسية التي نادت بشعار «الحرية والإخاء والمساواة»، وسرعان ما تحول معنى المواطنة من النموذج الأول (الإقامة) إلى النموذج الثاني الذي تحدد بدخول الحقوق والواجبات على المعنى الجديد الذي اجتاح أوروبا في ردة فعل تمثل صفعة في وجه الطغيان الذي نتج عنه استبعاد ملايين البشر من كونهم مواطنين، بدأ باستبعاد النساء والبربر في اليونان القديمة، واستبعاد «العلمانيين» من مجتمع المدينة السماوية الخاص بالمؤمنين المسيحيين كما قال القديس أوغسطين في «مدينة الله» وغيرها، ففي ألمانيا تحدد مفهوم المواطنة bildungsbuergertum بالحقوق والواجبات، وبالمثل حدث في مختلف أوروبا. ولاحقا، أعطت نظرية مارشال في كتابه «المواطنة والطبقة الاجتماعية» الصادر عام 1950 دفعة جديدة لمفهوم المواطنة بوصفها «إقامة تقترن بالحقوق والواجبات»، إذ فصل مارشال تلك الحقوق بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
النموذج الثالث للمواطنة هو الذي نجده بوضوح في المجتمعات الشرقية بمعنى «الرعايا»، والرعايا ضمنيا هم جزء من «أملاك» الحاكم، وبالتالي تتحدد حقوقهم وواجباتهم بما يقرره هو لهم، ولذلك ارتبط خطاب حكام الشرق منذ الحضارات الشرقية القديمة بمفهوم الملكية عند الحديث عن المواطنين (يا أبناء شعبي..)، وحتى وقت متأخر لم تعرف اللغات الشرقية عموما كلمة «مواطنين»، وكان الإمبراطور الياباني ميجي يستخدم كلمة «شنمن» التي تعني «رعايا» حتى 1912.
***
مع تطور الزمن والآلات تطورت الحروب، والتي أنتجت بدورها حالات جديدة أربكت الكثير من القيم والمعاني ومنها «المواطنة»، إذ أصبح لدينا «لاجئون سياسيون» ونازحون ومهاجرون وأقليات عرقية مهجرة لم يتطرق لها توماس مارشال في نظريته التي هيمنت عليها النظرة الطبقية وتأثير السوق الرأسمالي.
ومع دخول أشكال جديدة للحروب التي يشهدها وقتنا الحاضر وتجاوزها للشكل الكلاسيكي (تقابل الجيوش) عادت نقاشات «ما بعد الثورة الفرنسية» للواجهة من جديد، وذلك بسبب ظهور «مواطنين» من أصول أجنبية يحاربون الدولة التي ينتمون إليها ويضرون بمصالحها، الأمر الذي أحيا خطاب «المواطنة العرقية» على حساب المواطنة بالإقامة والحقوق والواجبات.
الغريب، أن فرنسا التي أنتجت مفهوم المواطنة المرتبط بالحقوق والواجبات، هي ذاتها التي تتعالى فيها اليوم أصوات اليمين المتطرف المطالب بطرد المهاجرين وسحب الجنسية من ذوي الأعراق غير الأوروبية، بينما ألمانيا التي عرفت سابقا بعنصريتها المفرطة لدرجة تمييز الألماني وفقا لملامح الوجه والسمات الجينية، واعتبرت غير الألماني (وخاصة اليهود) ليس فحسب غير مواطنين، وإنما untermenschen، أي أقل من إنسان، أقرت مؤخرا «حق» ازدواج الجنسية للمواليد من أصول أجنبية، فضلا عن الحقوق الكثيرة التي لا يحلم بها المواطنون الألمان المهاجرون أو من ذوي الأصول الأجنبية في بلدانهم الأصلية..
[email protected]