محمد الخالدي
مؤلم أن تكتشف حين تتأمل في حياتك أنك تدور في مدارات، كلما انطلقت من نقطة تجد نفسك بعد فترة تعود إليها من جديد، أن حياتك مجرد أحداث تتكرر كل عام، كل شهر، كل يوم، وأنك في هذا كله إنما تمضي إلى نقطة محددة، موتك. دوائر... حياتنا كلها دوائر تشبه مسارات الأفلاك في دورتها حول ذاتها، الكون كله يدور وكأنه «اسطوانة» تطلق من صندوقها العتيق حكاية العالم.
غريبة هي علاقاتنا بالأماكن والأشياء والأشخاص، غريبة بمعانيها ودلالاتها المتحولة، قلوب الناس صناديق مغلقة، تدنيك وتقصيك، حالها كحال المطارات ومنافذ السفر، تراها أماكن مشرقة عند اللقاء، وأماكن موحشة عند الرحيل. الدرب إليها واحد غير أنه يتحول في داخلنا بين البعد والقرب بتحول المشاعر، كالمنازل التي تتحول بتحول ساكنيها، تعمر بهم أحيانا وتضيق بهم أحيانا أخرى، تلك هي حال القلوب، وما أبشع أن تتحول القلوب إلى «مطارات»، تعج بالمسافرين دون أن تكترث لأحد منهم، وجوه تمضي دون التقاء، طوابير من البشر تعبر بلا انتهاء، بلا تواصل إنساني، دمعة هنا.. وابتسامة هناك.
ولكن عندما تتحول المسارات العابرة من خطى في دوائر مبعثرة، إلى خطوات مبرمجة وممزوجة بالأحاسيس، عندما تتحول النظرات إلى مشاعر والنبض إلى معاني، عندما تصبح اللحظة أكبر من مجرد خفقة قلب، عندما يورق غصن ما، في مكان ما، تعلم حينها أن شخصا ما قد «حل» في قلبك، لا كمسافر أو عابر سبيل، وإنما كجزء من كيانك، تدرك حينها أن الأرض أكثر رحابة، وأن القلوب يمكن أن تصبح ملتقى للأحباب، أنها «أوطان» وليست صالة مطار.
بيني وبيني مسافة، أكبر من مساحات الوقت، بآلامه وأحزانه وهمومه الكثار، أطول من تعاريج الزمان على وجوه العجائز، وأشد من قسوة الدموع عند الجنائز، بيني وبينك فضاء يمتد أمامي كالبحر، كعالم مظلم، كحفرة بلا قرار... كابوس مرعب أن تمتد يديك عبر المجهول، فلا تقبض فيهما غير الفراغ، بلا انتهاء، ولا شيء غير السراب.