محمد الخالدي
وحيدا كان يسير على كورنيش الروشة في إحدى ليالي بيروت الباردة، منظر البحر وخطى العشاق وانعكاس الأضواء على سطح الماء كلها كانت تخترق في أعماقه أسوار الضجر. فاجأته بندائها من بعيد: تعال.. تعال أقولك. سيدة في منتصف العمر تلبس ثيابا بدوية، ربما كانت من الجنوب، توقف وفي لحظات مرت بسرعة أخذ يقلب الاحتمالات، فماذا عساها تريد؟ ربما تكون متسولة، لا بأس سأعطيها ما تجود به النفس، قد تكون «نصابة»، أستغفر الله كيف حكمت عليها بهذه السرعة!
خطواتها بطيئة، لماذا لا تسرع؟ اقترب هو لتقليص المسافة، وتقليص حالة الفضول أيضا.
قالت له السلام عليكم يا «خوي»، وعليكم السلام أهلين، تعال أشوف لك الفال، مشكورة لا أريد. ومضى في طريقه غير أنها ألحت عليه، وظلت تتبعه في خطاه. تعال أقولك وأعلمك الصحيح، يا ستي مشكورة لا أريد «واستمر في المسير»، تعال أقولك على اللي شاغل بالك و...، اللي شاغل بالي أعرفه ولا أحتاج إلى أحد ليخبرني عنه فأرجو أن تتركيني «ومضى غير أنها لاتزال تحث الخطى من ورائه، وتصر على أن تدخل قلبه وتحفر في أعماقه»، تعال أشوف لك الفال، اسمعني بس ولا تعطيني شي «يستمر في المشي دون أن يرد»، أقولك لا تعطيني فلوس بس اسمعني.. هذا مو دجل لا تخاف، أشوف لك النصيب بس. نصيبي أخذته خلاص «يبتسم».
لا مو خلاص «قالتها بثقة»، تسارعت النبضات في قلبه، وتزايدت كمية الدماء في عروقه، لاحظت ارتباكه فزادت عليه: انت تحب، عطني ايدك وأنا أقول لك اللي يريح بالك. بضع قطرات من العرق بدأت تتصبب من جبينه، أصبح غير قادر على إخفاء حالة الارتباك في محياه، يعرف في داخله أنها تكذب، أنه دجل وشعوذة، غير أن الفضول جارح قالت: طيب أقولك اسمها علشان تصدقني؟ توقف، التفت ناحية اليمين وأطلق بصره إلى «صخرة الحب» في عمق البحر، تردد.. أنفاسه تتصاعد، تردد أكثر.. ثم وفي لحظة استسلام قال: طيب.. تفضلي يدي وقولي ما عندك، ولكن بعدها تتركيني أوكي؟ ردت بضحكة غجرية: yes.. تراني أحجي انجليزي بعد ههههه.
ضحكتها باردة، وشعوره بالفضول بات أقوى. قالت: اسمها (...)، رعشة خفيفة أصابت أطرافه.. تصلبت شرايينه.. وتحجرت مقلتاه، صمت للحظات كن كالأعوام، أخذ يستغفر ويقرأ المعوذات ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكنها ظلت تهمهم وتزيد عليه وتؤمله بما يخبؤه له القدر، واصل المشي وهواجس الكون كلها أصبحت تدور في رأسه، واستمرت هي تتبعه، باتت تزعجه، مثل حصاة في حذائه، لكنه سارع الخطى... وفي لحظتين من الزمان غاب عنها، وكأنه يريد الهرب من سماع شيء قد يحبسه في دهاليز ذلك العالم المرعب!