إلى غاية ستينيات القرن العشرين، كانت مفاهيم مثل السيطرة، الاستقرار، التحكم، التخطيط المركزي، اقتصاد الهيمنة، هندسة الطقس والتنبؤ بالمستقبل وأشباهها هي المفردات السائدة في خطاب الخبراء والعلماء.
أما اليوم فلم يعد أحد يجرؤ على استخدام مثل هذه التعبيرات المفرطة بالزهو وربما الوهم.
مفردات اليوم هي الفوضى، الاضطراب، نقاط التحول، تأثير الفراشة وعدم الاستقرار.
****
بتأثير من نيوتن في القرن السابع عشر سيطرت على العلم فكرة أن الكون عبارة عن آلة هائلة الضخامة، كل شيء فيها محدد ودقيق ويسير بنظام مرسوم، كل ذرة في مكانها الصحيح وتؤدي عملها كما يجب.
وبالتالي، تحددت مهمة العلم وفقا لهذا التصور باستكشاف قوانين الطبيعة واستثمارها لخدمة الانسان.
وقد رسخت قوانين الحركة التي صاغها نيوتن بالفعل هذا التصور حتى غدت الفكرة السائدة والراسخة أن الكون مصمم بطريقة ميكانيكية ومن أجل الانسان تحديدا، وأطلق العلماء اسم «الكون الانثروبي» (نسبة للكلمة اليونانية انثروبوس أي الانسان)، أي إن الكون مصمم وفقا لوعي الانسان وإدراكه وعقله وقدراته.
****
في منتصف القرن الثامن عشر قال يوهان بوده: (عالم فلك ألماني توفي عام 1826) بأن المسافات بين الكواكب لا بد أن تكون محددة بأبعاد رياضية مقننة وليست اعتباطية، لأن الكون آلة ضخمة وكل شيء فيه مقنن كما قال نيوتن.
أجرى بوده عدة حسابات وتوصل في النهاية لمعادلة (0+4/ 10) فنحصل على نتيجة هي المسافة من كوكب ما عن الشمس بقياس وحدة فلكية (الوحدة الفلكية = 90 مليون ميل، أي 150 مليون كلم)، ثم لحساب مسافة الكوكب التالي في مدار الشمس، نضاعف ناتج الكوكب السابق بمضاعفات العدد 3 (0، 3، 6، 12، 24.. الخ) واستمر بوده في حساباته وكانت النتائج المذهلة تأتي صحيحة مع كل كوكب يبعد عن الشمس، ابتداء من عطارد، الزهرة، الأرض، والمريخ، لكن عندما وصل لكوكب المشتري جاءت النتيجة خاطئة (أوووبز ).
توقف يوهان بوده حائرا، اعترف بأنه لا يملك تفسيرا، لكنه على ثقة تامة بأن معادلته صحيحة.
تم تجاهل بوده وحساباته لعدة سنوات، إلى أن اقترح بعض علماء الفلك وجود كوكب يقع بين الشمس والمشتري في الموقع الذي توصل إليه بوده.
وبالفعل، في عام 1801 تم اكتشاف كويكب «سيريس» والذي يتموضع تماما في المكان الذي حدده يوهان بوده، واعترف العلماء بفضل هذا الفلكي العبقري، وترسخت أكثر فكرة أن الكون منظم ومقنن ولا وجود للفوضى أو الصدفة فيه.
****
وعلى خطى يوهان بوده قام عالم الكيمياء الروسي ديمتري مندليف بوضع جدول للعناصر الكيميائية عام 1869 أطلق عليه اسم «الجدول الدوري للعناصر»، وهو مكون من 18 عمودا و7 صفوف، وزع عليها أسماء العناصر الكيميائية المكتشفة لغاية تلك الفترة، ثم ترك فراغات وهو واثق من أنه سيتم اكتشاف بقية العناصر وترتيبها في مواضعها في الجدول، ومصدر هذه الثقة هو الفكرة الراسخة عن الكون بأنه كون ميكانيكي منظم.
ومرة أخرى، بالفعل كان علماء الكيمياء عاما بعد عام يكتشفون عناصر الكيمياء في الطبيعة ويرتبونها في مواضعها التي تنبأ بها مندليف، إلى أن اكتمل الجدول الدوري في عام 2009 تماما.
****
العالم الإيطالي العبقري جاليليو كان يقول: «كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة رياضية متقنة».
لكن، ما رسخته الفيزياء على مدى قرون طويلة حول استقرار الكون وميكانيكيته التي تسمح بفهمه والتنبؤ بحركاته، هدمته الرياضيات الحديثة مع مطلع سبعينيات القرن العشرين، واستبدلت مفاهيم الاستقرار بمفاهيم الاضطراب والفوضى وهو ما سنوضحه في المقال القادم بإذن الله.
[email protected]