في أواخر القرن السادس عشر كتب العالم الايطالي الفذّ جاليليو جاليلي ملاحظة «بسيطة» حول وجود «شذوذات» ومظاهر غير قابلة للضبط في حركة البندول، إلا أنه تجاهلها لأنها «ضئيلة جدا»، وكان على العالم أن ينتظر 4 قرون ليتم اكتشاف أن هذه الشذوذات البسيطة هي في الحقيقة سبب غير قابل للفهم والتحكم لكثير من الحوادث والكوارث الطبيعية والاقتصادية المدمرة، فالضئيل جدا يتراكم ليصبح كبيرا ومدمرا دون القدرة على تتبعه وملاحظته، وهذا ما تنبه له في بداية القرن العشرين العالم الفرنسي العبقري هونري بوانكاريه وصاغه بمبدأ بات يعرف بمبدأ بوانكاريه القائل: «أقل اضطراب يحدث هنا قد يولد عاصفة كبرى هناك»، وأطلق بوانكاريه على هذه الظاهرة اسم «تأثير الفراشة» butterfly effect، بمعنى أن فراشة صغيرة تضرب بجناحيها في برلين قد تتسبب بحدوث تسونامي مدمر في تايلند، وكان هذا بداية تراجع العلماء عن الاعتقاد بقدرتهم على التحكم في الكون والتنبؤ بما سيحدث، وأصيب العلم بخيبة أمل وصدمة كبرى من هذه الحقائق، والتي نشأ على إثرها علم جديد يسمى «فيزياء الفوضى» chaos physics وعلوم أخرى مثل رياضيات الفوضى وعلم اقتصاد الفوضى.. الخ.
****
لطالما كانت الصفة المميزة للعلوم الطبيعية هي قدرتها على التنبؤ والقابلية للسيطرة والتحكم بخط سير ظواهرها الطبيعية مادام كان بالامكان التحكم بشروطها الأولية بصورة «حتمية»، إلا أن حقيقة كون اضطرابات بسيطة غير محسوبة في الشروط الأولية قد تؤدي لنتائج مخالفة تماما للمتوقع قد خيبت الآمال وجعلت العلماء يستبدلون الحديث عن الحتمية بالاحتمال، فهذا أقصى ما يمكنهم.
تخيلوا كل هذا على مستوى العلوم الطبيعية، فكيف هو الحال مع العلوم الإنسانية؟ ربما يكفي هذا لفهم سلسلة الانهيارات غير المتوقعة في الاقتصاد والعلاقات بين الدول.
****
تأملوا هذا، لكي نصدق أن ما يحدث في الشرق الأوسط بأنه «مؤامرة» مخطط لها مسبقا، علينا أن نصدق بأن المتآمر «أميركا في هذه الحال» دبرت قيام صدام حسين باحتلال الكويت عام 1990، وقيام تحالف دولي يحرر الكويت، ثم ينقلب عليها تنظيم القاعدة الذي كانت تدعمه ضد الاتحاد السوفييتي ويقوم بتفجير برجي التجارة في نيويورك، ليقوم بوش الابن بالانتقام من أفغانستان والاطاحة بصدام حسين عام 2003، ليدخل العراق في فوضى وحرب طائفية، ثم تدبر بالتأكيد قيام البوعزيزي، رحمه الله، بحرق نفسه، وقدح شرارة الثورة في تونس ثم مصر ثم ليبيا ثم اليمن ثم سورية، ثم تتدخل إيران وحزب الله للدفاع عن نظام الأسد، ثم تدخل القاعدة على الخط وتنقسم إلى عشرات التنظيمات الفرعية وتتصارع فيما بينها ثم تهيمن «داعش» على المشهد وتطرد القاعدة وتحل محلها بعد أن يتسلل إليها عناصر من البعثيين أتباع صدام حسين لنصل إلى ما نحن عليه اليوم.. هل بالامكان تصور كل هذا على أنه «خطة مسبقة»؟
ان فوز بوش الابن بالانتخابات مثلا هو ما يقصده علماء فيزياء الفوضى بتأثير الفراشة بالتحديد. حدث صغير وربما عادي جدا يحدث هنا، سيكون سببا في كارثة كبرى هناك يوما ما.
****
وما دمنا نتحدث عن أميركا، في الموروث الشعبي الأميركي أغنية جميلة وقديمة تقول كلماتها:
بسبب سقوط مسمار سقطت حدوة الفرس،
وبسبب سقوط الحدوة فقد الفرس توازنه،
وبسبب فقْد الفرس توازنه سقط الفارس،
وبسبب سقوط الفارس انهزم الجيش في المعركة،
وبسبب هزيمة الجيش سقطت المملكة،
كل هذا بسبب مسمار
****
تأملوا في هذا.. حدس الشعراء والفلاسفة أحيانا أعمق بكثير من حسابات علماء الرياضيات وفيزياء الكون.
[email protected]