لا أعرف شعبا تعامل مع مرحلة «ما بعد الحرب» مثلما فعل الشعب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية من حيث محاسبة النفس وتصحيح الأخطاء. في عام 1946، بعد نهاية الحرب بأشهر، نشر الفيلسوف الوجودي وعالم النفس الألماني العظيم كارل ياسبرز كتابا بعنوان «مسألة إحساس الألمان بالذنب»، تحدث فيه عن فظائع النازية ضد اليهود، وهو الذي عاش جزءا من تلك الجرائم وعانى منها مع زوجته اليهودية، فقد تم طرده من الجامعة وواجه الكثير من التنكيل والإقصاء.
وبخلاف الموقف المخزي لزميله الفيلسوف مارتن هيدجر الذي دعم النازية ودافع عنها، كان موقف ياسبرز مشرفا وأكثر إنسانية، مثله مثل الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت التي وقفت في مسألة محاسبة الشعب الألماني موقفا عقلانيا وموضوعيا أثار عليها حينها عداء قومها من اليهود.
تناول ياسبرز موضوع الشعور بالذنب schuld بدراسة نفسية معمقة، ذكر فيها ان أصل المصطلح يعود لكلمة يونانية قديمة تعني «التغطية»، وهو الفعل الذي يقوم به الشخص غالبا حين يشعر بالخجل أو الخزي، فيقوم بتغطية وجهه، وهذا ما تعبر عنه منحوتة رودين الشهيرة «حواء بعد السقوط»، حيث يظهر التمثال امرأة تغطي وجهها وتنحني خجلا.. لشعورها بالذنب ربما.
ياسبرز تطرق لجرائم النازية وانتقدها بشدة، إلا أنه عارض الدعاية الغربية التي نشطت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في أميركا وفرنسا والاتحاد السوفييتي في محاولة لتحميل الشعب الألماني كله ذنب ما اقترفه النازيون، مع أن النازية في نهاية الأمر حزب سياسي وصل للسلطة باختيار الناس عن طريق الانتخابات.
****
رغم ترديد كثير من كبار المسؤولين الغربيين بعد كل حادثة «إرهابية» ينفذها مسلم بأن «الإسلام بريء من الإرهاب، وأن هؤلاء الإرهابيين لا يمثلون الإسلام..»، إلا أن نتاج الجهد الإعلامي الغربي ككل هو في الحقيقة ترسيخ لنفس الفكرة التي جرى ترسيخها في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تحميل «كل المسلمين» شعورا عميقا بالذنب والخزي، ما يجعلهم في وضع أضعف وبحالة خنوع واستسلام تام لتقبل القصف والقمع وسقوط آلاف الضحايا المدنيين هنا وهناك خلال عمليات «مكافحة الإرهاب»، تماما مثلما يتقبل الألمان إلى اليوم بخنوع وانكسار الدفاع عن كل ما هو يهودي، بل ويدافعون عن الصهيونية المجرمة حتى، كل هذا بسبب شعورهم بالذنب تجاه ما جرى لليهود.
المسلم اليوم يشعر بالانكسار والخوف وحالة من الشعور العام بالذنب وكأنه مسؤول عن كل ما تفعله التنظيمات المتطرفة هنا وهناك، رغم إدراكه بأنه بريء تماما من كل ما يجري حوله، فهو بالنهاية «مواطن منزوع الحقوق»، لا يختار من يحكمه ولا يشارك في أي قرار لا من قريب ولا من بعيد.
****
تقول عالمة الإنثروبولوجيا روث بنديكت في دراستها القيمة حول التمييز بين مفاهيم الخزي والشعور بالذنب وبين الشعور بالإحراج، إن الشعور بالذنب يأتي من انتهاك القيم الخاصة بالفرد وليس القيم الثقافية والاجتماعية، أي أن الذنب شعور فردي ينتج عن سلوك محدد.
نفهم من هذا أن ما تفعله آلة الإعلام الغربي المؤدلجة ضد الإسلام والمسلمين هو تحويل المسلم الفرد لموضوع عام، تحمله مسؤولية عامة ينشأ عنها شعور عام بالمسؤولية عن كل جريمة يرتكبها أي مسلم في أي مكان في العالم، حتى لو كانت مخالفة مرور.
****
نحن أيضا شركاء في صنع حالة الشعور العام بالذنب، فكثير من «النقد الذاتي» هو في الحقيقة ليس نقدا، بل مرضا نفسيا يسميه فرويد «عقدة الذنب» guilt complex، وكثير منا يمارس عقدة الذنب عند الحديث عن الغرب.. نجلد ذاتنا بعنف.
[email protected]