معظم البشر يصدرون أحكامهم تبعا لتجارب شخصية في حياتهم، يكرهون ويحبون ويعممون بسبب مواقف شخصية، ولا يتجاوز ذلك إلا شخص عظيم، فهذا شأن العظماء.
****
إيلي فيزيل يهودي ولد في رومانيا عام 1928، كان ضمن المعتقلين هو وأسرته كلها في معتقل آوشفيتز النازي في پولندا، وشاهد يوما بعد آخر موت والده ثم والدته ثم شقيقته في غرف الغاز، وحرق جثثهم في ساحات آوشفيتز، وكان هو الناجي الوحيد من هذه العائلة البائسة. يروي فيزيل حادثة أثرت فيه كثيرا في آوشفيتز، يقول: في أحد الأيام أجبرنا الجنود النازيون في المعتقل على حضور عملية اعدام طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره شنقا، وقفنا ننظر للطفل وهم يقتادونه للمنصة، والعجيب أن الطفل ذا الوجه الملائكي الجميل كان يسير بهدوء وسكينة لا يمكن وصفها، صعد للمنصة وكان في حالة استسلام تام والجنود يجهزونه للموت، يلفون الحبل على عنقه الصغير ويغطون وجهه بقطعة قماش.. يقول فيزيل، استمرت عملية الاعدام أكثر من ساعة كاملة، إمعانا منهم في إذلالنا وبث الرعب في قلوبنا. حينها وبهمس وحزن وانكسار قال لي الرجل بجانبي: أين الله؟ كيف يسمح بهذا؟! ويضيف فيزيل: في ذلك الموقف المؤلم تزعزع إيمان معظم الحاضرين، وأنكر معظمنا وجود الله.
****
نحن نعرف أن الأطفال يموتون كل يوم، وأن كثيرا منهم يموت ميتة بشعة، لكن خوض تجربة مشاهدة قتل طفل أمامك أمر مختلف تماما بالتأكيد، وأكبر منه أن يكون الطفل طفلك. لذلك تأملوا فيما يجري في سورية والعراق واليمن وفلسطين المحتلة وغيرها.. كيف بربكم هي حال الأمهات والآباء الثكالى؟! كيف هو إيمانهم بعد كل هذه الآلام والرعب الذي يعيشون مأساته كل لحظة؟! ثم تأملوا في خطاب معظم رجال الدين واهتماماتهم وقضاياهم التي يناقشونها على المنابر وشاشات التلفزيون.. لتدركوا حجم البؤس الذي يكابده المسلم اليوم!
****
بعد مشاهد القتل الجماعي المرعبة التي مارسها النازيون في معتقل آوشفيتز، عقد عدد من اليهود المعتقلين ما أطلقوا عليه «محاكمة الله»، فشكلوا محكمة اختاروا لها من بينهم قضاة وهيئة دفاع وهيئة اتهام، وراحوا يحاكمون ربهم الذي- بحسب اعتقادهم- اختارهم ليكونوا شعبه المختار، وكيف تخلى عنهم ولماذا تركهم فريسة سهلة للنازيين. وقد نشر الأديب الانجليزي فرانك بويس روايته الشهيرة «محاكمة الله» gon on trial والتي تحولت لفيلم سينمائي بنفس الاسم لاحقا حول ذلك اليوم، فيها من العمق والفكر ما يسحر العقول ويهز الضمائر.
****
إيلي فيزيل كان في ذلك كله استثنائيا، شأنه شأن العظماء وهم قليلون، فقد تجاوز محنته الشخصية وتجربته خاصة بكل ما فيها من آلام ومعاناة، لم يفقد إيمانه ولم يستسلم للكراهية، وقد استحق جائزة نوبل للسلام عام 1986، وفي عام 2006 رفض قبول منصب رئيس الكيان الصهيوني المحتل (إسرائيل) بعد توصية من رئيس الوزراء الصهيوني ايهود أولمرت.
****
يقول ايلي فيزيل: «نقيض الحب ليس الكراهية، إنما عدم الاكتراث. نقيض الجمال ليس القبح، إنما عدم الاكتراث. نقيض الإيمان ليس الهرطقة، إنما عدم الاكتراث. نقيض الحياة ليس الموت، وإنما عدم الاكتراث». ما أحوج هذا العالم القبيح للخروج من حالة اللامبالاة وعدم الاكتراث التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا تجاه ما يجري للبشر من قتل وتشريد.
[email protected]